الصحوة – د. معمَّر بن علي التوبي
قراءتي للإنسان أقصد بها محاولتي لفهم هذا الكائن العجيب المَلِيء بالأسرار، صاحب السلوك والصفات الصعبة في فهمها. أدرك أنني حينما أحاول أنْ أكتبَ عن الإنسان فهي محاولة أقرب ما يمكن وصفها بالتأملية حيث أجمع فيها شتات الأفكار والتأملات التي تحيطني عند مراقبتي لذاتي وللذوات الإنسانية من حولي؛ فتجتمع المتغايرات فأراها تشكّل في مضمونها الكلّي مجموعة من الصور والأفكار التي يمتهن الذهنُ سبكها وصياغتها ليعيد تشكيل معنى الإنسان ومحاولة فهم نمطه وماهيته العجيبة. هنا أعيد تشكيل تأملاتي في معنى الإنسان بعيدًا عن النمط البيولوجي والنمط الكوانتمي الذي طالما -كما تعودت- اتّخذتهما أدوات مساعدة في فهم الإنسان والوعي والوجود. هنا أحاول أنْ أرى الإنسان متأملًا ومراقبًا لا أكثر.
تكون البداية من رؤيتنا لأنفسنا حيث الذات المحسوسة والحقيقية الأولى التي نعرف لها وجودًا شعوريًا لا مثيل له، حيث تتجدد المشاعر بين حين وأخرى يصعب فهمها أحيانا كثيرة، وتتقلب في مناطق شعورية متعددة ومتغايرة كلها تُشيرُ إلى حقيقة وجود الذات، ويأتي بعدها شعور هذه الذات “الأنا” بالذات الأخرى من حولها، فعن طريق التواصل والاحتكاك الاجتماعي قد يتولّد الشعور بالآخر الذي قد يتفاوت في درجاته من حيث نوعه؛ فتجد إمّا العقلاني المجرّد من العاطفة أو العقلاني الممزوج بالعاطفة أو حتى العاطفي المحض. الشعور الذاتي الأول فطريٌ بطبعه وأصله، يتكوّن مع مراحل الإدراك الأولى للإنسان، يبدأ خلالها فهم ذاته الطامحة، الحالمة، الراغبة، الحاقدة، السعيدة، الغاضبة، وأهمها ذاته الواعية لمعنى الأنا، فتطوّر الشعور الذاتي يكون مقرونًا بتطور الوعي الذاتي المرتبط بالوجود الخارجي، ومنه الإنسان الآخر؛ لتبدأ بعدها تتشكّل مقوّمات الإدراك الخارجي حيث تبرز الإنسانية في أسمى معانيها؛ فتتجلّى الأخلاق التي تعيد دمج الإنسان بالإنسان الآخر؛ فتطغى صور الحب والتكافل والرحمة والصدق والإحسان والتعاون، وهذه المعاني الأخلاقية لا تخرج دون التوسّع الشعوري الذي يأخذ الإنسان من شعوره الفرداني الذاتي إلى أفق شعورية أكثر اتساعًا لتشمل الإنسان الآخر؛ بل الوجود كله.
الإنسان بطبعه محب لذاته، ومخلص لها، حيث يُفْرِد لها مساحةً خاصة من التضحيات المتمثلة في الأمنيات والأهداف وما يتبعها من خطوات وأعمال مضْنِية، ولهذا نجده كثيرًا ما يلعب دورَ الممثل البارع؛ ليكون التمثيل المقصود أو غير المقصود (اللاواعي) أداة لبلوغ الغايات؛ فنجده -أحيانا- ذلك الأنيق في شكله وهندامه، والمُتَّزن في سلوكه ، والذكي في تعاملاته؛ فيختار من أشكال مظاهره ما يناسب الآخر أو يرضي به ذاته، فتراه الأنيق الباسم في حالات الفرح وإنْ تطلّبَ التصنّع والمبالغة دون الرغبة الحقيقية المُلّحة، وتراه الحزينَ المُظهرَ حزنه في أوقات الحزن وإنْ كان مجردَ مظهرٍ خارجي لا يعكس الدرجة العالية الظاهرة من الحزن، وكذلك تراه الإنسان الغاضب الثائر لقضيته أو قضايا يعتقد أنها تخص المجموعة التي قد لا تعكس رغبة حقيقية إلّا تعزيزَ الانتصار الذاتي أو الجمعي. تراه يتقلّب في مظاهره السلوكية ليبدو أقربَ لوصف الممثل البارع لا أكثر، وكأنه يُؤدّي دوره المسرحي على خشبة المسرح ليُشاهده الحاضرون؛ فتمثيله إمّا يعكس قراره الداخلي الذي يؤمن به وإمّا مجاراة لمجريات الحياة الاجتماعية منها أو السياسية أو حتى لمجرد البحث عن القبول وإرضاء الآخر، أو تتحقق فيه فرضيات فرويد المعروفة أو فرضيات ابن خلدون وأوصاف علي الوردي -الساخرة- الاجتماعية.
في المقابل نجد أيضا ذلك الإنسان الذي فضّل أن تتحدَّ ذاته بالوجود كلّه لتكون جزءًا واحدًا؛ فتراه الإنسانَ البعيد كل البعد عن الابتذال السلوكي والمظهري، المتشكّل مع حقيقة واحدة لا تعني وجوده الواحد الفرداني فقط، المنغمس في الكل دون الأجزاء المنفصلة، يرى ذاته والوجود كل شيءٍ، لا يجيد التمثيل ولو مع ذاته، يرغب بالفردانية الفكرية التي تمنحه الفرصة ليعيد تشكيل معنى الحياة وذاته التي لم يَعدْ يراها منفصلة عن أي وجود ومحيط خارجي؛ لتُخرج مكنونات أفكاره النقيّة غير الساعية لمطامع وأهواء بل تلك التي تتمسك بقيم وأخلاق فاضلة، يرى نفسه في الوجود، ويرى الوجود في نفسه؛ ليخرج بمعادلة يَصْعُب فهمها، فيرى من خلالها عميق ذاته ومعنى الحياة جُلّها؛ لتنكشف له أفاق خَفِيَتْ عن كثير غيره، ومن هذه الأفاق معنى الصنعة والصانع، حيث تتجلى فيها المعرفة الأسمى، وهي معرفة الواجد الواحد “الخالق” حينها لا وجود للزيف في حياته، ولا وجود للحقد والكره والتعصب والاستبداد، بل هناك وجود للحب الناصع المجرّد من جميع أشكال الكذب والخداع والتمثيل. لا أنكر -كما ذكرتُ في سطوري الأولى- أنه من الصعب تحديد ذلك الإنسان (الفرد) العجيب وتحديد ماهيته المطلقة، وفهم دوره الحالي في الحياة إلّا أنني لم أجدْ صعوبة في إيجاد بعض التأملات بل في معرفة من أظنهم يعيشون وعاشوا مرحلة الإنسانية المثالية.