الصحوة – د. فوزية سيف علي الفهدي
جاء في معجم لسان العرب ” رجلٌ نزْهُ الخُلُق ونَزِهُه ُونازِهُ النّفْس: عفيف متكرّم يَحُلّ وحْده ولا يخالِط البيوت بنفسه ولا ماله، والجمع نُزَهَاء ونَزِهُون ونِزَاهٌ، والاسم النَّزْهُ والنَّزَاهةُ، ونزّه نفسه عن القبيح: نحّاها ” وأبعدها عن السّوء، وما يمكن أن يشكّك الآخرون في خلق ذلك الإنسان وسلوكه ويدخل الريبة في نفوسهم جراء بعض أعماله، إذن فالإنسان النزيه يتحرّى العفّة، ويبتعد عن مواطن الشكّ في حياته وما يصدر منه من أقوال وأفعال، يحرص دائما على أن يسلك طرق الصالحين ويبعد نفسه عن مواطن الشبهة في العمل والأخلاق.
في العادة يسأل الإنسان نفسه في كل خطوة يخطوها، هل لهذا العمل قيمة لي ولغيري؟ هل يناسبني أن أقوم بهذا الفعل؟ هل يسمح لي ديني وتشفع لي أخلاقي ومبادئي فعل ما أنا مقبل على فعله؟ هل في هذا العمل أو السلوك مصلحة شخصيّة قد أحصل عليها إن فعلته؟ وهل تتقاطع مصلحتى مع مصحلة مجتمعي أم تتعارض معها؟ هل ينتج من عملي أو سلوكي هذا مضرّة لأحد وهل يعود هذا العمل بالضرر علي بعد ذلك؟ إذا كنت سأفعل هذا الشيء مع هذا الشخص القريب فهل أستطيع فعله مع الجميع دون استثناء؟ أنا باعتباري صاحب وظيفة ومركز اجتماعي أيليق بي هذا الفعل ويرفع من قيمتي أمام نفسي أم أنّه يحطّها ويدنيها ويحقرها؟ هل ما أحصل عليه من امتيازات ومصلحة أستحقها بالفعل؟ بمعنى هل هي متاحة للجميع إن سعى إليها؟ وهل يحق لي أن أغرف وآخذ قدر ما أحببت؟.
هذه الأسئلة وغيرها يسألها الإنسان العاقل السويّ لنفسه قبل أن يقوم بأيّ عمل فيه بعض الآخذ والشكوك، ويحاول أن يجيب عليها بصورة تقرّبه من الرضا والطمأنينة النفسية التي يسعى إليها ويحرص عليها، أما أنْ يخلق لنفسه الأعذار، وتسوّل له نفسه -بالمبررات الواهية- فعلها فهذا بعيد عن النزاهة، وتغابي عن الحقائق، وطمس لإرادة الذات المسؤولة والسويّة، وغياب للمثل والأخلاق التي نستقيها من ديننا السمْح، إنّه هروب إلى براثن التغافل الذي يقود إلى طرق الإفك، وحمولة تقرّب الإنسان إلى طرق السُّحت، الذي يقود بتوالي الأعمال إلى الفجور والضلالة، ويهوي بالإنسان العظيم إلى مهاوي الردى، وتوالي الرداءة في أعماله.
هكذا ينسلّ الإنسان من مستويات السموّ والرّقيّ إلى مدارك السفالة والضلالة والانحطاط ويمارس بصورة عفويّة الفساد في كلّ عمل وقول ، إذ يكون هذا السلوك قد أمسى طبعا يتطبّعه ويراه عادياً وطبيعيّاً يصل به إلى غاياته وأهدافه، بعض، ونفاقا يتقرّب به لدى أصحاب النفوس الضعيفة من مثله، وهو بذلك يحوز على المال والمكاسب بسهولة، فيسرّ أيما سرور، ويعيش شعور الأبطال المنتصرين؛ لأنّ الأبواب المغلقة صارت تفتح له ، فيغترّ بعمله، وتزداد أرصدته، وتكبر أعداد عقاراته، لكنّه في الحقيقة مع كلّ عمل كان يخسر نفسه ويدنيها ويحطّ من قدرها، فقط يواسيها بكلمات الإعجاب الزائفة التي تصدر من هذا وذاك، والذين صادفهم في طريقه. بعضهم قد يعرفه ويجامله أو يسعى للتقرّب منه، وبعضهم لا يعرفه فيحكم عليه من موقف عابر. وبذا يكون قد ربّى نفسه على عادة الضلال واستساغة الفساد كما يقول الشاعر أبو ذؤيب الهذلي في قصيدته المعروفة:
والنفس راغبة إذا رغّبتها وإذا تردّ إلى قليل تقنعُ
فكما عُودتْ النفس يكون سلوكها في جني مكاسبها والسعي إلى حصادها. إذا ترّبت على المعالي ومكارم الأخلاق تعيش بها وتعامل الآخرين من نافذتها، أمّا إذا اعتادت على التعالي بالمناصب والمكاسب بأيّ وسيلة كانت رأت الناس من هذه الزاوية؛ فاحتاط صاحبها لهيلمانه وحيازاته لكي لا يصادرها المحتاجون والطامعون في نظره.
عندما يكون الوطن هو المكان الذي نمارس فيه أخلاقنا فيجب أن نتحرّى النّزاهة، والنزاهة تتطلّب منا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا المسؤول أو المجتمع؛ لأنّ الوطن هو المكان الذي نشأنا عليه، وأكلنا من خيره، وشربنا من مائه، ولعبنا تحت فيّه ، وأمِنّا تحت سقفه وسمائه، إنّه بيتنا الكبير الذي لا نريد لأركانه أن تتزعزع أو تختلّ. فالوطن هوالعالم الذي نطمح أن يكبر بنا، وهو الكون الذي يحرس وجودنا، وهو الفضاء الذي نرجو أن يثبت ويعلو شأنه، فإذا أيقنّا أنّه لا يقوم إلا بنا، وأنّنا لا نعلو ونكبر شأننا إلا به، فلن نسمح حينها لأنفسنا وضمائرنا أن تضربه أو تؤذيه قيد أُنملة؛ لأنّ هذا الفعل سوف يضع فيه العطب، ويفسده.
يجب أن نسأل أنفسنا إذا قمنا بالعطب في وقت ما: كيف مارسنا حقّ الوصاية على مصلحة قد تخلخل لبِنات هذا البيت السامق، كيف يسمح كلّ صاحب منصب أو كرسيّ -هو في موقع المسؤولية واتّخاذ القرار- أن يتّخذ قراراً أو يوقّع على مسألة قد يتهاوى فيها هذا الوطن الرائع أو أحد أفراده ؟ كيف نمارس حقّ تنفيذ المسؤوليات بالسماح للمتخاذلين والمعطّلين للطريق بأن يستمرّوا في ضلالاتهم وأعمالهم المشينة، كيف يهرب الموظف كلّ يوم من عمله لإنجاز مصلحة خاصة أو ليقعد في أحد المقاهي مستمتعا كل صباح بحجّة أن الجميع يفعل هذا، كيف يهرب العامل والإداريّ والمعلّم من واجبه إلى الذي يؤديه لوقت معين في حرم العمل؛ ليبيع أرضا أو يتابع بناءا أو يُجري مكالمة يمكنه أن يقوم بها لاحقا، لكنّه سمح لنفسه بسرقة حقّ الوطن ورأى ذلك مستساغاً ومنتشراً بين الجميع. كيف وصلنا لهذا؟ وكيف سنسمح لأنفسنا بأن نستمرّ في طريق كهذه؟ إنّنا نزعزع بيتنا يا سادة، فأفيقوا جميعاً.
إذا كنا نستمدّ أخلاقنا من ديننا فالله تعالى يقول في كتابه العزيز – الآية ١٠٥ من سورة التوبة: “وقلْ اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون”، ويقول رسولنا العظيم: ” المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، فاحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز”، وهناك نصوص كثيرة من القرآن والسنّة تحث علي العمل الصالح، فالعمل الصالح يحقّق توازناً نفسيّاً عالياً للذات، ويُشْبَع في الإنسان رغبة العطاء والشغف التي فُطر عليها الإنسان باعتباره مخلوقاً يحب السعي والعمل.
لا ننكر أبداً أن روتين العمل اليوميّ قد يضعف طاقة الفرد للعطاء والعمل بشغف، لكنْ دعونا نعي أن كتابة الأهداف الحقيقيّة والواقعيّة والتي تستند إلى بيانات واضحة وتحديّات حياتيّة، قد تقود الفرد إلى وضع خطّة للعمل والبناء المثمر ولو على مستوى الذات فقط، يجب أن تحرّكنا هذه النفس المسؤولة والضمائر الحيّة لنعطي الوطن أجمل ما لدينا، لأنّه يستحقّ العطاء وبقوّة ، إنّ هذا الوطن هو عمان التاريخ والمجد ، إنّه الفلج الذي شربنا منه، وهو التراب الذي افترشناه في مساءاتنا الدافئة، إنه الجبال العالية بالمجد والهمّة، إنه السّماء الصافية والنجوم العالية، والقمر الحاني. إنّه الفضاء الذي إن خرجنا عنه ضمئنا وإن سافرنا عن سمائه تعبنا، وإن قارناه بغيره ضعنا، إنه المكان والأيام الذي لا يشبه شيئاً إلا نحن، هو الكينونة الخالدة في أرواحنا، والرائحة الزكيّة التي نشتمها في رئتينا، وهو السلام الذي يرسم هدوءنا، هو نشيد وجودنا، وملجأ نفوسنا وموطن آبائنا وأجدادنا، فيه ولدنا وعلى أرضه نشأنا وتحت سمائه كبرنا وفي ترابه لعبنا وعليه نشيخ وفي قبوره سندفن عندما يحين الأجل.
أرجوكم أحبوا أنفسكم لتحبوا وطنكم، عطروا حياتكم بالمحبة الصافية التي تخلو من الطمع والنظر إلى ما لدى الآخرين، نقّوا سرائركم بالعبادات التي تقومون بها منذ الصباح حتي المساء، اجعلوا صلواتكم تنهاكم عن الفحشاء والمنكر فعلا لا قولا وترديدا فقط، استشعروا وجودكم وكينونتكم وهُويّتكم وماضي أجدادكم وآبائكم، آمنوا بأنفسكم التي هي امتداد لذلك التاريخ العريق من الصبر والعمل والبذل، استشفوا شغف العطاء والتضحيات عندما تجدوا بسمات الصغار ورضا الكبار، ربوا أبناءكم بالحب ليكونوا امتداداً لوجودكم اليوم، لا تلبسوهم غير لباسكم، وتطعموهم من طعام غيركم، واسألوا أنفسكم : هل ما أطعمت به أبنائي جاء من مال حلال؟ فإنّ الأفعال الصغيرة، هي التي تصنع أيامكم وتبني أوطانكم وتقيم بيوتكم، وتحرس وجودكم.
دمتم في حب دائما
ودام وطننا شامخا مع أبنائه الصالحين، والمصلحين