الصحوة – نوف الحراصية
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التبرع بالأعضاء وزراعتها ومدى حاجة مرضى الفشل العضوي لمتبرع ينقذهم من آهات الآلام وأنين الويلات، حيث تُعيد عملية زراعة الأعضاء الأمل لملايين المرضى حول العالم، وتعرف عملية زراعة الأعضاء بأنها عملية جراحية يتم فيها نقل أحد الأعضاء البشرية من جسم المتبرع وزراعته في جسم المريض، وقد كانت أول عملية زراعة كُلية في سلطنة عمان عام ١٩٨٨ من مريض حي وآخر متوفى دماغيًا، وفي عام 2017 بدأت زراعة الكبد في سلطنة عمان، ومن أجل تطوير هذا المجال جاءت المباركة السامية بإنشاء المركز العماني لزراعة الأعضاء، وتم تأسيس البرنامج الوطني لزراعة الأعضاء بقرار وزاري في مارس 2021م، بالإضافة إلى تأسيس الرابطة العمانية لزراعة الأعضاء تحت مظلة الجمعية الطبية العمانية في يونيو 2021م.
وبلغ عدد عمليات زراعة الكُلى في السلطنة نحو 325 عملية، فيما بلغ عدد عمليات زراعة الكبد نحو 22 عملية، ويبلغ عدد مرضى الغسيل الكلوي نحو 2275 مريضًا، وتشير الأرقام إلى أن عدد المتبرعين قليل بالموازنة مع عدد المصابين بالفشل العضوي، وقد تكون المفاهيم المغلوطة لدى المجتمع حول التبرع بالأعضاء وزراعتها والخوف من التبرع وقلة التوعية والتثقيف واحدة من معوقات انتشار هذه الثقافة في المجتمع، ومن هذا المنطلق تنقل لكم “الصحوة” بعض آراء المتخصصين والمواطنين في هذا المجال.
أهمية التبرع
في البداية حدثتنا الدكتورة نورين بنت يوسف البلوشية استشارية جراحة أورام الكبد والمرارة والبنكرياس وزراعة الكبد بالمستشفى السلطاني وعضو الرابطة العمانية لزراعة الأعضاء، فذكرت أن هناك عددًا كبيرًا من مرضى الفشل العضوي الذين لا يجدون متبرعين لهم بسبب نقص التوعية والتثقيف المجتمعي حول التبرع بالأعضاء مما يعرضهم للمضاعفات والموت الحتمي، مشيرة إلى أن عدد مرضى الفشل الكلوي المعتمدين على الغسيل بلغ 2275 مريضًا، ويُعد التبرع بالأعضاء الحل الأنسب لهؤلاء المرضى.
وأوضحت الدكتورة نورين البلوشية أن متبرعًا واحدًا بعد الوفاة يمكنه أن ينقذ حياة 8 أشخاص يعانون من الفشل العضوي، وعند التبرع بالأنسجة يزداد الرقم إلى 50 شخصًا، بينما يمكن للمتبرع الحي إنقاذ شخصين، ويكون التبرع من الشخص الميت بثمانية أعضاء، وهي الرئتان، والكليتان والقلب والكبد والأمعاء والبنكرياس بالإضافة إلى الأنسجة والقرنية، فيما يمكن للشخص الحي التبرع بكُلية واحدة ورئة واحدة وجزء من الكبد والبنكرياس والأمعاء، مشيرة إلى أنه يتم حاليًا في سلطنة عمان زراعة الكُلية والكبد من الأشخاص الأحياء والمتوفين دماغيًا، وتتراوح المدة المستغرقة ليتماثل المتبرع له من مرضه بين ٥-٧ أيام؛ إذ تعتمد على تعقيد العملية وطبيعة جسم المريض.
آلية التبرع
وحول آلية التسجيل للتبرع تقول الدكتورة نورين البلوشية: إن وزارة الصحة قامت بتطوير تطبيق “شفاء” للتبرع بعد الوفاة، فيمكن للراغب في التبرع بعد الوفاة التسجيل بكل سهولة من خلال التطبيق مع إمكانية تغيير رغبته في التبرع في أي وقت، مشيرة إلى أن عدد المتبرعين المسجلين في تطبيق “شفاء” بلغ نحو 7092 متبرعًا، وفيما يتعلق بالمتبرعين الأحياء الأقارب للمرضى فإنه يتم تحويلهم من خلال نظام التحويل التابع لوزارة الصحة إلى عيادة التبرع بالأعضاء بعد إجراء الفحوصات الأولية اللازمة لهم في المستشفى المرجعي بالمحافظة.
التحديات
ولفتت الدكتورة نورين البلوشية في حديثها إلى أن من التحديات التي تواجه مجال زراعة الأعضاء في السلطنة هي عدم تفهم المجتمع لموضوع التبرع بالأعضاء والموت الدماغي بسبب قلة التوعية في هذا المجال، ووجود الكثير من الأمراض الجينية واستفحال الفشل الكلوي وغيره من فشل الأعضاء، وزيادة عدد المرضى المصابين بالفشل الكلوي موازنة بعدد المتبرعين، إلى جانب الحاجة إلى تدريب الكادر الطبي وتطوير البنية التحتية لبرنامج زراعة الأعضاء.
وأكدت الدكتورة نورين أن الرابطة العمانية لزراعة الأعضاء تسعى بكل ما تملك من مقدرات إلى إذكاء ثقافة التبرع بالأعضاء بين أفراد المجتمع من خلال تنظيم مختلف الفعاليات المجتمعية ونشر المعلومات الصحيحة من خلال حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي كما تسهم الرابطة وبالتعاون مع البرنامج الوطني لزراعة الأعضاء بوزارة الصحة في تأهيل الكوادر الطبية من خلال إقامة المحاضرات والندوات العلمية في مجال التبرع بالأعضاء وزراعتها.
وفي هذا الإطار قال الدكتور حمد الكلباني طبيب زميل في قسم جراحة القلب في جامعة السوربون في باريس ” كلي ثقة بأن الشعب العماني لا يقل عطاء ولا سخاء ولا إنسانية عن الغرب ولا عن باقي شعوب العالم وإنه إذا ما وعى المفاهيم الصحيحة غير المغلوطة للتبرع بالأعضاء شرعًا وقانونًا فإنه سيكون أكثر شعوب العالم إقبالًا على التبرع بأعضائه بعد الوفاة الدماغية لأن التأريخ أثبت للجميع أن الشعب العماني مدرسة فيما يتعلق بالتكافل الاجتماعي “.
الضوابط القانونية
وفيما يتعلق بالضوابط القانونية التي تنظم عملية زراعة الأعضاء في السلطنة، أوضح الدكتور راشد بن حمود النظيري أستاذ الفقه وأصوله بكلية الحقوق بجامعة السلطان قابوس أن اللائحة التنظيمية لنقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية الصادرة من وزارة الصحة بقرار وزاري رقم 179/2018 قد نظمت أحكام نقل الأعضاء والأنسجة البشرية وزراعتها، ووضعت لذلك ضوابطَ وشروطًا؛ تمسكًا بحرمة جسد الإنسان حيًا كان أو ميتًا، ومن ذلك: أن تكون العملية في مؤسسة صحية مرخص لها، وأن يغلب على الظن نجاحها، على أن تكون الوسيلة الأمثل والأفضل للعلاج، وأن يكون العضو المنقول سليمًا ملائمًا للزرع غير مفضٍ لاختلاط الأنساب، وأن يكون المتبرِّع كامل الأهلية (إتمام 18 سنة) مع تحقق رضاه التام الحر بلا ضغط أو إكراه أو مقابل مادي أو معنوي، بعد تبصيره المكتوب بالنتائج الصحية المرتقبة، وانتفاء الضرر الجسيم أو الوفاة بسبب إجراء العملية، وأن يكون المتبرَّع له من أقارب المتبرع حتى الدرجة الرابعة إلا إذا وافقت اللجنة الفنية على خلاف ذلك، وتحققت الحاجة الماسة في المتبرَّع له.
وأكد الدكتور راشد النظيري بأنه لا يصح قانونًا أخذ العضو من ميِّت إلا إذا ثبت إيصاؤه أو وافق ولي أمره، وتحققت وفاته بتوقف قلبه وتنفسه توقفًا تامًّا ونهائيًا، أو توقفت جميع وظائف جذع مخه توقفًا نهائيًا وفق المعايير الطبية الدقيقة، وهو ما يُسمى اليوم بالموت الدماغي، مشيرًا إلى أن القول بالموت الدماغي هو القول الذي أفتى به فضيلة الشيخ الدكتور كهلان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، في حلقة سؤال أهل الذكر، فقال: “متى ما تحقق موت جذع الدماغ، وبدأ الدماغ في التحلل، فإن هذا الإنسان ميِّت، وهذه الوفاة أو هذا الموت موت حقيقي، تسري عليه سائر أحكام الوفاة، ولذلك ساغ أن ترفع عنه هذه الأجهزة أجهزة التنفس الاصطناعي، وتسري عليه أحكام الموتى، فالانتفاع من أعضائه متى ما أوصى… وصية صحيحة مقبولة شرعًا، فحينئذ يمكن الانتفاع من هذه الأعضاء في اللحظة التي تكون الأجهزة لازالت تعمل”. كما أكدت المادة 12 من اللائحة التنظيمية أنه إذا نُزع العضو من الميت لزم إعادة الجُثَّة قبل الدَّفن إلى مظهرها الطبيعي قدر الإمكان.
منظور الشرع الإسلامي
وتحدث الدكتور راشد النظيري “للصحوة” عن زراعة الأعضاء من منظور الشرع الإسلامي، فقال: “نظرًا للتقدم العلمي والتكنولوجي المعاصر في المجال الطبي طُرحت مسألة زراعة الأعضاء بشيء من العمق والتحقيق، ومع عدم قيام نص شرعي صريح لا يقبل الاحتمال في ثبوته أو التأويل في مدلوله، فقد اختلف الفقهاء في حُكم عمليات نقل الأعضاء والأنسجة البشرية، والذي سار عليه العمل أخيرًا، وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، وعوَّل عليه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة، ودرج عليه كثير من أهل النظر والفُتيا هو القول بالجواز والإباحة، وفق ضوابط دقيقة وقيود محكمة، وفي ذلك إقامة للتوازن بين حرمة جسد الإنسان الثابتة بالنصوص القاطعة، والمصلحة الاجتماعية التي دلَّت النصوص على لزوم مراعاتها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}، وفي الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»”.
وأضاف: كم هي السعادة والمسرة التي يُدخِلها المتبرِّع على نفس المريض السقيم، الذي يَئِن بالآهات ويُعاني الويلات، ولذلك كان التبرع بالأعضاء صدقة وقربة، يبتغي بها العبد رضاء ربه، ويتقي بها كل أذية، وقد ثبت في الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: «كل معروف صدقة»، يقول فضيلة الشيخ الدكتور/ كهلان بن نبهان الخروصي في الندوة الوطنية لزراعة الأعضاء، والتي عُقدت بتأريخ 13 نوفمبر 2021: “السؤال الذي يدور في أذهان الكثيرين هو حكم التبرع بالأعضاء؟ والجواب المباشر لهذا السؤال هو جواز التبرع بالأعضاء، بل هو من القربات والأعمال الصالحة والصدقات الجارية”.
عمل إنساني
تعرفت “الصحوة” على آراء بعض المواطنين حول التبرع بالأعضاء، فقالت رقية الجلندانية: إن التبرع بالأعضاء باب لإحياء الأنفس، وذلك تطبيقًا لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)، وهو عمل إنساني يحيي الأمل لدى الملايين من المرضى حول العالم، مشيرة إلى أن عدم انتشار ثقافة التبرع بالأعضاء في السلطنة يعود إلى قلة البرامج والحملات الدعوية في هذا المجال، مضيفة أنه مع ذلك توجد بعض الجهود لنشر الوعي والمعرفة عن هذه الثقافة، فقد قام المستشفى السلطاني بتدشين تطبيق إلكتروني تثقيفي لزراعة الأعضاء “عطاؤك حياة 8″، بالإضافة إلى تأسيس الرابطة العمانية لزراعة الأعضاء.
من جانبها، تقول زوينة الجهضمية: قد تكون قادرًا على إنقاذ روحًا بعد وفاتك، أن تُسعِد من بعدك أشخاصًا وعوائل، أن تكون سببًا في شفاء مريضًا، كلها اختصار لمصطلح واحد وهو التبرع بالأعضاء. مضيفة أن زراعة الأعضاء من الخطوات المهمة التي اتخذتها السلطنة في هذا الجانب والتي تسهم في إنقاذ حياة الكثير من المرضى، فالتبرع بالأعضاء من الأعمال التي يؤجر عليها المتبرع في الدنيا والآخرة وأيضًا صدقة جارية له بعد مماته؛ إذ يكون المتبرع سببًا في تعافي الكثير من المرضى المحتاجين وإنقاذهم.
وترى الجهضمية أن المخاوف التي قد تصيب الشخص جراء التبرع بالأعضاء هي السبب في جعل هذه الثقافة راكدة وغير منتشرة كثيرًا، كما أن مبدأ “إكرام الميت دفنه” وتأخير الدفن ودخول الإنسان بعد موته إلى التشريح وإزالة أعضائه هي السبب الكبير لعدم انتشار هذه الثقافة كثيرًا.
وعلَّقت الثريا اليعربية أن إحياء الأنفس هو من أعظم القُربات وأجزلها عند الله، قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}، فإنقاذ نفس من مهلكة والرغبة في مساعدة الآخرين دون مقابل هو أصل الدين ومن فضائل الأخلاق شريطة ألّا يكون هناك ضرر بالغ على المتبرع، وينتفع منه المنقول إليه.
من جهته، قال حميد البريكي: لا شك أن التبرع بالأعضاء يعد من أهم القرارات التي يمكن أن يتخذها الإنسان، لما له من شأن عظيم في إنقاذ حياة الكثيرين ممن هم بحاجة إلى زراعة عضو، ويكثر الجدل في مسألة التبرع بالأعضاء خاصة في مجتمعنا العربي والإسلامي من ناحية جوازه من عدمه، وتمخض عن النقاش واختلاف وجهات النظر أن هذا الأمر لا يمكن أن يؤذن به بدون ضابط أو قيد؛ لأن الأمر سيخرج عن السيطرة، وربما سيحدث ما يسمى بتجارة الأعضاء البشرية المحظورة شرعًا وقانونًا.