بقلم : د. مريم بنت حميد الغافرية
تطلُّ رواية (البيرق) الجزء الثاني بعنوان فرعيٍّ (سراة الجبل) وهي نتاج روائي صدر للروائية شريفة التوبية، عن دار الآن ناشرون وموزعون. روايةٌ في التاريخ الاجتماعي، فعتبة العنوان الرئيس للرواية “البيرق”، ويشي العنوان الفرعي “سراة الجبل” بنقطة الانطلاق التي بدأت منها أحداث الرواية. الغلاف من تصميم بدور الريامية، ينير عتمة سواد الغلاف الخارجي “بياض البيرق الخفَّاق” الذي يعكس خير وخيرات الجبل في الطبيعة والإنسان، ويعانق لون حبات الرمان الحلوة مرارة الطعن بالسلاح على أرضية تجفف خضرتها وحجارتها في الوقت نفسه، دم الرمان المقاوم، الذي يصعد عطره كبراءة روح الأطفال، تقاوم رائحته دخان الحرب)، ويحمل اللون الأصفر في العنوان الفرعي المشاهد العِجاف التي مرت بأهل الجبل.
تتحرك التوبية بمرونة؛ لتسقط التاريخ الاجتماعي على أحداثٍ “كانت” لتصبح “تاريخًا اجتماعيّا متخيًّلاً”.
شرفاتٌ من ساحة سجن القلعة ومن قلب سجنها الذي يُحكى عنه قديمًا للأجيال، يبدأ المشهد الأول للأحداث وبالتحديد مشهدٌ وصفيٌّ حواري لصالح بن ناصر بن حمد، الذي شهد الجزء الأول حديثًا عن غيابه.
يتمظهر الحوار في الرواية في أنماط عدّيدة، فهناك الحوار الخارجي، والحوار الداخلي، وقد يجمع الحوار إلى جانب اللغة الفصيحة اللغةَ العامية لغة الحياة اليومية، وقد عمدت التوبية إلى توظيف التناصات التراثية: القرآنية والأدبية والثقافية، إلى جانب استدعاء الشخصيات التاريخية، والمأثورات الشعبية؛ الأمر الذي يثري الحوار، ويعمق مقاصدها، ومن جانب آخر يتمظهر الحوار بين الذات وما تحمله من هواجس وتساؤلات.
إن بنية الحوار بين الشخصيات أخذت حظًّا وافرًا، إذ شكل الحوار بين شخصيات الرواية ما يقارب (70%) من السرد والوصف؛ وتحمل الرواية تقنيات فنية متماسكة إلى حدٍّ كبيرٍ؛ أما لغة الرواية؛ فذات حس واقعي، يلبسها خيالٌ وصفيٌّ غير مخلًّ بمعنى الفكرة.
لقد وظفت الكاتبة عدداً من أساليب البناء الروائي الحديثة مثل: الاسترجاع الفني، وأسلوب القطع، والحوار بنوعيه، والأحلام والكوابيس، والوصف، والسرد بأنواعه؛ الأمر الذي جعلها تؤدي دوراً متميزاً في عرض رؤية الكاتب الاجتماعية وتحديد صورة موضوع الرواية تحت راية أحداث سياسية في ظل سيرورة الحياة الاجتماعية بالجبل.
وُفِّقت الكاتبة في توظيف بنية الحوار؛ ليتماشى مع شخصيات الرواية والبيئة المحيطة بالشخوص.
ولما كانت بنية الحوار ركيزة مهمة من ركائز البنية الروائية، والخطاب السردي، فلا يتصور أن تبني رواية من الروايات، ولا يستخدم كاتبها الحوار وجزيئات الحركة؛ لآنها بدون الحوار تغدو رواية جافة ومشوهة، وتكون خالية من الحركيّة، والتبادل اللفظي الحواري. ومما لا شك فيه، أن بنية الحوار تؤدي دوراً حاسماً في تطوير أحداث الرواية، واستحضار الحلقات المفقودة فيها، والكشف المباشر وغير المباشر عن الطبائع النفسية والاجتماعية والثقافية للشخصيات، وفي رسم ملامح تلك الشخصيات وأبعادها، وفي استجلاء عمق الأشياء، وتكشف عن رؤية الشخصيات إلى العالم والحياة وموقفها من الآخرين.
كما يساعد الحوار على بعث التلقائية في المواقف المتميزة، وتقوية أثر الواقع فيها، والحوار عنصر مهم للملتقى الذي يستند إقباله على قراءة الرواية على جاذبية الحوار، وقدرته على الإثارة والإقناع.
أنماط الحوار في الرواية: يتنوع الحوار الروائي ويتعدد تبعاً لقُربه من الحدث أو بُعده عنه، ووفقاً للوظيفة البنيوية التي يؤديها للسرد، وقد اتخذ الحوار في بنية رواية (البيرق)مسارين اثنين:
أحدهما: الحوار الخارجي، ويتمثل في وجود صوتين متحاورين في النص الروائي (الدايلوج)، والآخر: الحوار الداخلي، ويتمثل في حوار الذات مع نفسها (المونولوج).
أ. الحوار الخارجي: ويقصد به الحوار الذي يدور بين شخصين أو أكثر، ويسمع الملتقى هذين الصوتين واضحين في مشهد واحد. وقد كثرت نماذج الحوار بين شخصيات الرواية ابتداءً من الحوار الذي دار في سجن قلعة الجلالي وانتهاء بحوار السائق الذي دار بينه وبين حمود والمبتعثين إلى القاهرة.
ب. الحوار الداخلي(المونولوج): حديث أحد أشخاص الرواية مع نفسه لنفسه، وهو يلقي الضوء على العالم الداخلي للأشخاص، ويقرِّب المسافة بين الشخصية السردية والقارئ، ويضع هذا الأخير في الجو العاطفي، والنفسي المتوتر الذي تمر فيه، حديث عويدة مع نفسها، وجوخة زوجة مسعود وحديث نفافة وحمود مع ذواتهم…
التصميم المفكك والتصميم المحكم
جمعت الرواية بين النوعين، التصميم المفكك والتصميم المحكم. تمثل ذلك التفكيك والإحكام في الوصل والقطع في الأحداث بالرواية، فقد بلغت مقاطع الأحداث بالرواية سبعًا وتسعين (97) مقطعًا، كل مقطع يحمل حوارًا بين شخصيات الرواية، لكن هذا الحوار غير متصل بالمقطع الذي يليه، فهناك مراوحة بين الوصل والقطع، وهذا الوصل والقطع يدعم المفارقات الزمنية للحدث ويحرك السرد، كما أسهم القطع في الأحداث بين الجزأين (11) و(12)، والجزأين (76) و (77) في تحديث ذاكرة النص وسرعة الصيرورة للحدث اللاحق.
الشخصيات:
تنوعت الشخصيات في الجزء الثاني من البيرق، فقد زاد ذكر العنصر الرجالي وتفوق في العدد بخلاف الجزء الأول الذي كان يمثل دزينة ونيف من النساء. واختلفت أصوات الشخصيات، فكل شخصية تتكلم بأسلوب ونبرة تختلف عن الشخصية الأخرى واتضحت بعض المفردات التي تتكلم بعض شخصيات الرواية.
التخاطر: ظهر في ذكريات عويدة مع خديجة ” تذكرت خروج خديجة في يوم مشابه لهذا اليوم” ص52 وفي اللحظة نفسها تحاصر نفافة ذكرياتها مع أمها يوم القصف ” ركضي، ركضي” ص55
لغة الإشارة: استخدام الصفير ومعناه أن عليهم أن يختبئوا ص55
الرؤيا: تتجدد الرؤى في الرواية، وتبدأ من رواية عويدة ص53 التي ترى فيها علامات رمزية للموت، ورؤيا حمود التي تغير مسارات حياته…
تقنية التذكر: هي أحد تقنيات السرد الحديث، وهي أن تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء؛ لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشر، لكنها تجمدها أو تلقي بأضواء عليها؛ الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية وخصوبة. والتذكر في رواية البيرق “سراة الجبل”؛ يكشف شيئاً عن ماضي بعض الشخصيات، مثل: (شخصية مرهون وابنه مبارك…)، كما ترد صور تذكر الماضي عند كثيرٍ من شخصيات الرواية كـ (حمدان وعويدة ونفافة وطويرة وخلف زوج طويرة…) حين يتذكرون أحداث الماضي وذكرياتهم مع الآخر أو ذكرياتهم الخاصة.
استخدام العامية المطعَّمة بلهجة أهل الجبل:
لجأت الكاتبة إلى استخدام اللهجة المحكية أو العامية عند أهل الجبل، إلى جانب اللغة الفصحى. إن هذا التمازج بين الحكي الفصيح والعامي؛ جعل لغة الرواية بين مستويين لغويين، هما الفصحى والعامية، وقد غلبت العامية على الفصحى في الحديث الذي دار بين شخصيات الرواية، لقد شكل الحوار بين الشخصيات باللغة العامية العمود الفِقري لسيرورة أحداث الرواية، واستخدام لهجة أهل الجبل كان مرهونًا بالتواصل ضمن الفضاء الاجتماعي بين الشخصيات. وكذلك اللهجة العامة بين أهل محافظة الداخلية: (أيعيش، ما أيموت) ص83
إن استغاثة الكاتبة بالعامية كان لحاجة ملحة أكثر من الحاجة إلى إثراء المعجم اللغوي، وهي قوة التواصل الحواري بين شخصيات البيئة نفسها. وقد استخدمت كلمة “باه” لأهل حارة الوادي وكلمة “أبينا” عند قبائل أهل الجبل المختلفة.
صورة الأنا والآخر: تجلت صورة الأنا المتمسكة بعاداتها وعهودها ومواثيقها، وصورة الآخر الذي حاول زعزعة هذه القيم بزرع الجواسيس بين أهل الجبل. كذلك اختلاف لغة الآخر خلق مفارقات ساخرة؛ فـ” سمويل” كانوا ينادونه سمايل (بلاد بكبرها…) ومن هذه المفارقات عندما قال المترجم الإنجليزي: ” مستشرق” رد عليه سليمان: (دام متشرّق؛ جيبوا له ماء). وتُظهر الرواية تفوق الآخر في تطور العدة والأسلحة الحربية وكثرة العتاد والقدرة على التخطيط وفي المقابل يجهل أبناء الجبل طبيعة الطرف الآخر ومخططاته (سمويل رسم الخطط وركز على الاستخبارات وذلك ما لم يكن يعرفه أبناء الجبل). المنشورات التي كانت تلقيها الطائرات؛ استخدمها الناس في إشعال النار ليتدفؤوا وقت الشتاء…
كما تظهر جهل الذات بأمراض العصر، فحين أخبر حارس السجن لال بخش من كانوا يالسجن، أن خميس كان عنده السكر؛ سخر من السجناء وضحكوا وقال أحدهم: (من هين جاب خميس بن عامر الله يرحمه سكر؟ ونحن حتى التمر ما ذقناه من يوم دخلتا هذا البخار…) ص206
كذلك جهل الذات بالعالم الخارجي؛ فحين شاهد مبارك وحمود البحر لأول مرة، قال مبارك: (يا ربي فلجهم كبير!)، صرخ عليه حمود: (اسكت لا تفضحنا هذا بحر ما فلج) ص470
إطلالات جديدة بالرواية:
– أظهرت الرواية سجن القلعة ووصفت هذا السجن بأن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، كما سردت معاناة السجناء في المأكل والمشرب وضيق المكان وعفونته وألم السجناء والنهاية التي تجلت في شخص، السجين خميس بن عامر ص202.
– أظهرت بطولات المرأة في الجبل وشجاعتها وبراعة استخدامها للسلاح وجرأة الدفاع مثل طويرة ص87 وحكايات شوّاخ التي يتحدث عنها أهل الجبل وبطولاتها التي يتحدث الناس عنها. ص285
– ويعود الطب الشعبي في الجزء الثاني من الرواية مرة أخرى، وهنا تظهر الكاتبة طريقة التعامل مع سُم العقرب، التي لدغت أحد أبناء جوخة ص282، كما يظهر الوسم بالنار وهو أحد أنواع العلاج الشعبي قديمًا.ص311
– حكايات المسافرين التي بدأت بسفر مبارك وحمود إلى البحرين، ثم سفر حمود إلى الدمام ولقائها بالإمام والشيخ وبقية من التحقوا من العائلات بالإمام.
– ذكر أماكن جديدة مثل: عقبة النسور، معسكر بديعوه، سجن قلعة الجلالي، البحرين، الدمام بالسعودية، القاهرة بمصر…
– بيئة الجبل وعور الطرق والمدرجات بالجبال، حيواناته مثل: الحمير التي كانت تحمل المؤن والعتاد للثوار، الثعالب والضبان والأفاعي والعقارب، كما ذكرت بعض نباتات الجبل، مثل: العلعلان، البوت، الجوز، المانجو، ماء الورد الذي يعطر هواء الجبل.
– العادات والتقاليد الاجتماعية كالزواج والوعد بتزويج الفتيات وهنَّ ما زلنا صغيرات لابن العم أو الخال.
– تحدثت الكاتبة عن عادة أخرى وهي النشوق او النشقة وهو عبارة عن تبغ غير محروق مضاف إليه مواد أخرى مثل: العطرون والرماد والتراب والملح والحناء والطحين والإسمنت بالإضافة على مواد أخرى وقد يكون النشوق مادة سادة مركزة حسب رغبة متعاطيها.
– وتظهر لازمة الكلام عند بعض شخصيات الرواية مثل خلف الذي يكرر لفظ ” تسمع مني” في كل كلام بقوله، وعويدة التي تستهل كلمة “علوووه” عند كل ندبة وتحسر.
– تظهر الحقائق المختفية بالجزء الأول، حقيقة قاتل ناصر بن حمد، التي كانت غامضة في الجزء الأول من البيرق لعويدة التي اتهمت عم أبنائها بقتله، ونعرف أن القاتل هو “خميس بن عامر”، كما تخبر عويدة صالحا عن حقيقة زواج أبيه من الجنية ميمونة وأن لديه إخوة من الجان.
– ظهرت الصورة الجزئية لمعاناة أهل الجبل وما تعرضوا له أثناء الحرب والقصف من جوع وموت وإبادة لأهل الجبل…
– تكشف مصير الثورة بصورة جزئية متكئة على أدوات التاريخ الاجتماعي، بعيدة كل البعد عن التاريخ السياسي لتلك الحرب التي دارت وتفاصيلها التي عاشها شهود المكان والحدث؛ فتنتقل الكاتبة عن طريق حمود إلى حديث جزئي عن حياة الإمام ومن معه في الدمام دون تشعبات فرعية وتصل بالقارئ إلى نهاية الرواية … سفر وابتعاث الابن النجيب حمود إلى مصر أم الدنيا وتنتهي آخر صفحة منها بنهاية غير متوقعة وتساؤلات محجوبة إجابتها، تتردد حول (سُراة الجبل) من هم السُراة الحقيقيون؟ وهل كان السُّري إلى الجبل هو المغزى، الذي تبدد معه آمال أهل الجبل وخيبة الوصول إلى المبتغى؟