الصحوة – د. حمد بن ناصر السناوي
أكتب لكم هذه المرة من العاصمة البوسنية ، سراييفو حيث الربيع الطلق يختال ضاحكا، وأفواج السياح تتوافد الى أزقة المدينة وأسواقها القديمة فتتجانس الأعراق واللهجات إحتفالا بالحياة في المدينة التي شهدت أشرس الحروب الحديثة التي لا تزال أثارها شاهدة على كفاح الإنسان من أجل الحرية والعدالة والغد الأفضل ، يخبرني المرشد السياحي بلغته العربية الرائعة عن الحرب التي استشهد فيها عمه و أصيب والده خلالها بجروح خطيرة و عن الحصار الذي بدا عام ١٩٩٢ و أودى بحياة الآلاف من المسلمين البوسنيين قتلا و جوعا بعد أن منع الصرب الطعام عن المسلمين الذين كادوا أن يأكلوا أوراق الشجر ، يخبرنا أيضا عن نفق الحياة الذي تم حفره تحت منزل أحد المسلمين ، يبلغ طول النفق سبعمائة وعشرون مترا فأصبح شريانا للحياة يمد السكان المحاصرين بالغذاء و يقلب موازين الحرب.
في البوسنة تستقبلك الطبيعة في أبها حللها ، فأينما يمتد بصرك تجد الأشجار الخضراء والأنهار المتدفقة والشلالات التي تنساب لتبعث في النفس راحة و أمان ، هنا يمكنك أن تتنفس و تتنفس و تملئ رئتيك بالهواء النقي بعيدا عن صخب المدينة وضغوطات الحياة. لم تكن هذه زيارتي الأولى إلى البوسنة فقد حضرت إليها في رحلة عائلية قبل جائحة كورونا و استكشفنا مع المرشد السياحي العديد من الأماكن و صنعنا ذكريات جميلة ، هذه المرة كانت لنا مغامرة جديدة في استكشاف بحيرة “بروكوشكو” التي تقع في أعالي جبل “فرانيتسا و تتميز بمناظرها الخلابة، وطبيعتها البكر، . تتكون مياه البحيرة من ذوبان الثلوج نهاية كل شتاء، ويقصدها آلاف السياح المحليين والأجانب من مختلف دول العالم، وصلنا إلى البحيرة بعد حوالي ساعة من العاصمة سراييفو على طريق جبلي يشبه إلى حد كبير طريق الجبل الأخضر بارتفاعه ، كان الجو باردا ودرجة الحرارة لا تتعدى الثمان درجات ، أخذنا المرشد السياحي إلى أحد الأكواخ الخشبية المنتشرة على ضفاف البحيرة و كان في استقبالنا الجدة صبحيه و زوجها سالم الذي باشر بإشعال المدفئة في كوخنا الصغير بينما شرعت الجدة في إعداد فطيرة الجبن البوسنية اللذيذة ، تبادلنا أطراف الحديث مع أفراد الأسرة بينما الجدة تفرد العجين و تحشوه بالجبن الطازج و من حولها ابنتها و حفيديها ، أخبروني عن انتقالهم إلى هذه الأكواخ مع بداية كل صيف لأن الثلوج تغمر المكان في فصل الشتاء وتصل درجة الحرارة تحت الصفر فتصبح الحياة مستحيلة ، أخبروني عن بقرتهم التي ولدت حديثا والتي تعطيهم الحليب والجبن الطازج التي تصنع منه الفطيرة البوسنية ، غبطتهم على حياتهم البسيطة حيث لا توجد شبكة إنترنت في المنطقة فيجتمع أفراد الأسرة في غرفة المعيشة يتبادلون أطراف الحديث ويساعد الأحفاد في إطعام البقرة و إحضار الخشب للمدفئة و تقديم الطعام للضيوف ، تناولنا الفطيرة اللذيذة واستكملنا استكشاف القرية والمسجد الصغير الذي يتوسطها و يرتفع من مئذنته الأذان مع كل صلاة فيبعث في أرجاء الجمال هيبة وراحة نفسية عجيبة ، أتنفس بعمق و أحلم برحلة قادمة إلى هذه القرية والمشي في هضابها و ربما تجربة المبيت في أكواخها والاستيقاظ مبكرا مع فجر يوم جديد ، يشهد على عظمة الخالق وعزيمة الشعب الذي حفر النفق يوما ما ليعانق الحياة و يتشبث في الأمل بغد أفضل.