الصحوة – الدكتورة شريفة بنت حمود الحارثية
الابتكار بمفهومه الشامل هو وقود المستقبل الاقتصادي وهو جسر العبور لتحقيق الرفاه الاجتماعي؛ ولكن من الانصاف أن لا نحمل الابتكار ثقل التغيير إذا لم يتهيأ العقل البشري والفكر العلمي لاستيعاب الابتكار كنمط وأسلوب حياة يومية، كما لا يمكن أن يقود الابتكار التغيير إذا لم تتوفر البيئة المحفزة من إرادة سياسية جادة وقوية، وتشريعات مرنة وسياسات متناغمة، والتمويل الكافي المتنوع والمستدام، والبُنى الأساسية لتمكين البحث والتطوير والابتكار كالمراكز البحثية ومراكز النمذجمة، وحاصنات ومسرعات الابتكار، والرأسمال المغامر من أجل تحويل الأفكار الابتكارية من خدمات وإجراءات وآليات تسويق وشراكات فاعلة ومنتجات تكنولوجية تقود لتأسيس شركات ناشئة يقودها الابتكار كرافد للاقتصاد الوطني ضمن توجه سلطنة عمان نحو التنويع الاقتصادي لتعزيز الاقتصاد المتكامل القادر على المنافسة الإقليمية والدولية، الأمر الذي يعمل على تحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية تعمل على تقليل الجهد والوقت والمال التي تعتبر عناصر أساسية لتحقيق الرفاة الاجتماعي في المجتمعات المتقدمة.
ولعل التنافس الشرس بين كبرى الشركات المبنية على الابتكار والتي تدعمها حكومات الدول الكبرى الأمر الذي يصل إلى حد النزاعات السياسية بين هذه الدول بسبب الأضرار الاقتصادية التي يمكن أن تعود نتيجة التنافس بين هذه الشركات العملاقة المبنيةعلى الابتكار.
وبعيدًا عن صراعات الدول الكبرى نعود لنسلط الضوء على مسيرة منظومة الابتكار في سلطنة عمان، فالإنسان العماني تفرد بالفكر الابتكاري منذ العصور السابقة لعصر النهضة الحديثة، والتي أظهرت الفكر الابتكاري في الاقتصاد سواء في صناعة السفن الذي ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالإمبراطورية العمانية والتجارة البحرية التي وصلت شراقًا إلى بلاد الصين، وغربًا إلى ما وراء البحار في الولايات المتحدة الأمريكية، وجنوبًا إلى أفريقيا، وشمالًا إلى باد فارس والنهرين، كما اهتم علماء عمان بعلوم الفلك التي صاحبت التجارة البحرية، ولا يزال هذا العلم من أبرز اهتمامات الإنسان العماني لما له ارتباط بالعبادات والشعائر الدينية.
ثم يأتي التصميم الإبداعي كشبكة قنوات الأفلاج التي أدت إلى ازدهار قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، وما زالت الرافد الرئيس لنمو وتطوير هذا القطاع الحيوي لتحقيق الأمن الغذائي، أو التعدين خاصة معدن النحاس الذي كان أحد الثروات المهمة في عمان، كما امتد الفكر الابتكاري إلى الإبداع المعماري التي تفردت به سلطنة عمان في القلاع والحصون والبيوت العمانية التي بنتيت بعناية وفق مواصفات هندسية علمية دقيقة الحسابات.
إلا أن عصر النفط والغاز خلق مسار مغايرًا لتحقيق الرفاه والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتوسع في البنى الأساسية للخدمات بشكل متسارع، أدى إلى تراجع ملحوظ في توظيف الفكر والإبداع البشري، وازدهار المكاسب السريعة من قطاع النفط والغاز. لم يكون هناك أي تناقض بين المسارين، فكان الأحرى أن يتزامن المسارين: الإبداع والإنتاج الفكري والمعرفة لأنه أكثر استدامة، مع توظيف العوائد الاقتصادية للنفط والغاز في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي أظهرت الأزمات العالمية المتلاحقة عدم قدرته على الاستدامة وهنا لا مجال لمزيد من التفاصيل في هذا الشان فهو واضح للعيان وللجمهور التبعات على المستوى الوطني والفردي.
وهنا يأتي السؤال هل ما زال لدى سلطنة عمان الفرصة والممكنات لتكون رائدة في البحث والتطوير والابتكار كما كانت؟ الإجابة القصيرة “نعم” وبيقين راسخ- من خلال تأسيس منظومة وطنية فاعلة للابتكار تقودها الاستراتيجة الوطنية للابتكار المعتمدة من قبل مجلس الوزراء الموقر عام 2017م.. “ولكن” يتطلب تأصيل ثقافة البحث والتطوير والابتكار في سلطنة عمان لتعود قوية كما كانت وتحقق عوائد اقصتادية حقيقية من توظيف العلوم والمعرفة والابتكار، أربع مقومات أساسية لا مناص منها، هذه المقومات تتفاوت بين ما هو متحقق في الواقع الملموس وما هو غير ذلك ويحتاج لمزيدٍ من التمكين.
المقوم الأول: الإرادة السياسية الجادة والراسخة وهذه من أهم المقومات والتي تعتبر القوة الدافعة الحقيقية للمنظومة الوطنية للابتكار ويشكل هذا المقوم التوجه الوطني، كما يشكل واقعًا ملموسًا على أرض الواقع من خلال النظام الأساسي للدولة- المبادئ الثقافية الفصل (14) البند (6) الذي يرسخ هذه الإرادة بشكل جلي، وخطاب صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في 23 فبراير 2020، وخطابه -حفظه الله ورعاه- في انعقاد دورة مجلس عمان في 2023، وخطاباته -أعزه الله- في زياراته الرسمية للدول الشقيقة والصديقة، ، كما جاءت رؤية عمان لتؤكد الرغبة الصادقة والجادة نحو جاهزية سلطنة عمان للتحول لعصر المعرفة والابتكار التي ترجمت بشكل مباشر ومتناغم ما جاءت به الاستراتيجية الوطنية للابتكار.
المقوم الثاني: الحوكمة الفاعلة للمنظومة الوطنية للابتكار، وهنا أقف وقفة جادة لأوضح أهمية هذا المقوم كأداة لتسريع وتفعيل الأثر الفعلي والمستدام لتوظيف المعرفة والابتكار من أجل تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة، وهنا يتبين القصور والذي يحتاج اتخاذ قرارًا حتميًّا ومن قبل متخذي القرار، فمن خلال سلسلة من الدراسات التي قمت بها مع مجموعة من المختصين والمفكرين لعدد من النماذج الدولية والممارسات العالمية الفضلى لععد يتراوح ما بين (12- 20) دولة جميها ضمن أفضل 20 دولة في التقارير الدولية لمؤشر الابتكار العالمي ومؤشر التنافسية العالمية، ومؤشر الاقتصاد المبني على المعرفة، والتي أظهرت أن حوكمة منظومة الوطنية للابتكار يجب أن تكون تحت إشراف قمة الهرم أو ما يسمى أعلى كيان في الدولة؛ لارتباطه بالنمو الاقتصادي والتنمية الشاملة كما أسلفت أعلاه وضرورة اتخاذ قرارات سريعة في الوقت المناسب. وهذا ما لم يتحقق حتى الآن لسلطنة عمان حيث ما زالت الحوكمة تواجه تحديات حقيقية تؤثر سلبًا على وتيرة التوظيف الفعلي للمعرفة والابتكار وبطء اتخاذ القرارات ذات العلاقة وتشتت الجهود لعدم وضوح الصلاحيات والمسؤوليات وتكاملها بين كافة الفاعلين في المنظومة.
المقوم الثالث: التشريعات المرنة، أن المنظومات الوطنية للابتكار لا تعمل إلا في ظل التشريعات المرنة وهذا ما أظهرته الدراسات الاستراتيجية لعدد من التجارب الدولية الناحجة التي قمنا بها، فالعلوم والمعرفة والابتكار في تسارع مضطرد يقاس بالثواني، وتتنافس فيه الدول للإنتاج والتسويق والتصدير في الأسواق العالمية حيث يعمل العلماء والباحثين والمهندسين والمبتكرين والمبدعين في مختبرات ومراكز المعرفية، ويواصلون الليل بالنهار وهذا يتطلب اتخاذ قرارا سريعة ومباشرة.
وهنا نوكد على أهمية التسريع في إصدار قانون البحث العلمي والابتكار واللوائح المرتبطة به من أجل تعزيز وتمكين جانب التشريعات المرنة وتفادي الإجراءات البيروقراطية المطولة التي تؤثر سلبًا على الإنتاجية والتنافسية.
المقوم الرابع: التمويل الفاعل وهو الوقود والمحرك الحقيقي للمنظومة الوطنية للابتكار فلا يمكن أن تتسارع عجلة الابتكار بدون التمويل الحقيقي والفاعل، وحتى أكون منصفة في هذا الشأن فقد أنفقت سلطنة عمان أكثر من (800) مليون ريال عماني خلال الفترة من 2011م- 2023م على البحث العلمي والأنشطة الابتكارية بمعدل 66 مليون ريال عماني سنويًا تشاركت فيه الحكومة مع شركات قطاع الخاص، وقد يتبادر للذهن السؤال الآتي: أين ذهبت كل هذه الملايين؟ وهل من أثر فعلي؟ الإجابة تكمن في قيمة هذه الملايين والتي شكلت ما نسبته 0.25% من إجمال الناتج المحلي وهي نسبة قليلة جدًا وفق المعايير الدولية التي تنصح بالاستثمار في البحث والتطوير ما نسبته 1% من إجمالي الناتج المحلي للدولة، فإذا رغبت الدولة بتحقيق أثر فعلي للمعرفة والابتكار، بمعنى سلطنة عمان ينبغي أن تستثمر ما يعادل 300 مليون ريال عماني سنويًا في البحث والتطوير والأنشطة الابتكارية حتى ترى الأثر الفعلي لعائد اقتصادي للتنمية، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن؛ ولكن من المهم بمكان أن يعرف الجمهور الكريم أن مبلغ ما يقارب (800) مليون ريال عماني الذي أنفق خلال العشر سنوات الماضية كان له الأثر الإيجابي في تأسيس البُنى والمكونات الرئيسية للمنظومة للإنتاج المعرفي الذي يشكل الحلقة الأولى والأساسية للابتكار من خلال تهيأة مختبرات مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات، وزيادة عدد الباحثين من حملة الماجستير والدكتورة، وتمكين المراكز البحثية في مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة والعسكرية والمؤسسات الحكومية، وتأسيس مراكز نقل التقانة في مؤسسات التعليم العالي، وزيادة عدد الأوراق العلمية المنشورة في المجلات العلمية العالمية المحمة بنسبة تصل إلى (500) ورقة علمية سنويًا وفق تقرير مؤسسة راند لعام 2013، وتأسيس عددًا من برامج تأصيل ثقافة البحث العلمي والابتكار في قطاع التعليم المدرسي، والتعليم العالي، والقطاع الصناعي، والمؤسسات الحكومية المختلفة، وتأسيس مراكز بحثية متكاملة مثل مراكز أبحاث السرطان، مركز عمان للموارد النباتية والحيوانية، كل هذه تعتبر خطوات رصينة في طريق بناء المنظومة الوطنية للابتكار، إلا أن الأمر يتطلب مزيدًا من التمكين لتعظيم الفائدة من هذه الاستثمارات التي لا تعتبر هدرًا ولا ترفًا؛ ولكنها أرضية صلبة ورصينة للانتقال إلى مرحلة الإنتاج والتنافسية الإقليمية والدولية وهذا لا يتأتي إلى من خلال زيادة هذه الاستثمارات لتصل للمعدلات المعيارية وتحقيق المستهدف في رؤية عمان 2040 بأن يصبح الإنفاق على البحث والتطوير والأنشطة الابتكارية ما نسبته 2% من إجمالي الناتج المحلي أي ما يقارب (600) مليون ريال عماني سنويا تتشارك فية الحكومة والقطاع الخاص وصناديق الاستثمار، والرأسمال المغامر، والمستثمرين الملائكيين، والتمويل الجماعي، وغيرها من أدوات التمويل من القطاع المصرفي.
الخلاصة:
لقد حان الوقت حتى لا تتخلف سلطنة عمان عن الركب ، وتعزز موقعها في خارطة العالم للمعرفة والابتكار وهي لديها كافة المقومات والأسباب لتحقيق ذلك خاصة القدرات الفكرية والعلمية الوطنية من الشباب والباحثين والعلماء والمهندسين والبنى البحثية الأساسية فينبغي التركيز في هذه المرحلة على تمكين ثلاث مقومات كما سبق ذكره أنفا: الحوكمة الفاعلة وتكون تحت إشراف أعلى سلطة في سلطنة عمان وبتوجه مباشر من صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، التشريعات المرنة من خلال إصدار قانون البحث العلمي والابتكار واللوائح المنظمة له، وزيادة الاستثمارات في البحث العلمي والأنشطة الابتكارية من خلال زيادة موازنات البحث والتطوير وتحفيز شركات القطاع الخاص والمستثمرين للمساهمة في تمويل المشاريع الابتكارية وتأسيس الشركات الناشئة القائمة على الابتكار.