الصحوة – الدكتور حمد بن ناصر السناوي
كَثِيراً ما نَقْرَأُ فِي مَواقِعِ التَواصُلِ الاِجْتِماعِيِّ عَن الدِراسَةِ الفُلانِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ المُقِيمِينَ فِي دَوْلَةٍ ما هُمْ مِنْ أَسْعَدِ الشُعُوبِ، أَوْ أَنَّ نِسْبَةَ المُصابِينَ بِالقَلَقِ أَوْ الاِكْتِئابِ أَوْ الوَسْواسِ القَهْرِيِّ تُشَكِّلُ 35% مِنْ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ، وَغَيْرِها مِنْ الأَرْقامِ وَالنَسَبِ الَّتِي تَتَخَطَّى حُدُودَ المَنْطِقِ المَعْقُولِ، خاصَّةً عِنْدَما يَتَشَدَّقُ بِها مَنْ لا يَفْقَهُ فِي مَنْهَجِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، وَكَيْفَ تُتَرْجِمُ نَتائِجَ تِلْكَ الدِراساتِ، فَيَكُونُ هَدَفُهُ الأَساسِيُّ إِبْهارَ القارِئِ أَوْ المُسْتَمِعِ وَشَدَّ الاِنْتِباهِ وَإِثارَةُ الجَدَلِ، أَحْياناً.
يُقالُ لِلرَجُلِ فِي اللَهْجَةِ العُمانِيَّةِ الدارِجَةِ “هٰذا الكَلامُ مِنْ كِيسِك” بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَساسٌ مِنْ الصِحَّةِ، وَهٰذا ما يَنْطَبِقُ عَلَى مُعْظَمِ المَعْلُوماتِ الَّتِي تَنْسَبُ إِلَيْها تِلْكَ الدِراساتُ الوَهْمِيَّةُ الَّتِي تَنْشُرُها الصُحُفُ وَالمَواقِعُ الإِخْبارِيَّةُ دُونَ مُناقَشَةٍ عِلْمِيَّةٍ لِمُحْتَوَى تِلْكَ الدِراساتِ.
أَذْكُرُ أَنَّنِي حَضَرْتُ أَحَدَ المُؤْتَمَراتِ الإِقْلِيمِيَّةِ مُنْذُ أَعْوامٍ، وَكانَت إِحْدَى الدِراساتِ المَعْرُوضَةِ تَتَحَدَّثُ عَن عَدَدِ المُصابِينَ بِمَرَضِ الاِكْتِئابِ فِي إِحْدَى الدُوَلِ. عِنْدَما سَأَلْتُ عَن طَرِيقَةِ جَمْعِ المَعْلُوماتِ وَالمَقايِيسِ الَّتِي اِسْتَخْدَمَها الباحِثُ فِي إِجْراءِ الدِراسَةِ، كانَت الإِجابَةُ بِأَنَّهُم وَزَّعُوا اِسْتِبْياناتٍ تَحْتَوِي عَلَى مَقايِيسِ الاِكْتِئابِ فِي إِحْدَى المُجَمَّعاتِ التِجارِيَّةِ الكَبِيرَةِ فِي تِلْكَ المَدِينَةِ. وَعِنْدَما سَأَلَتْ “هَلْ تَتَوَقَّعُ أَنَّ مَرِيضَ الاِكْتِئابِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لَدَيْهِ الرَغْبَةُ فِي التَجَوُّلِ فِي المُجَمَّعاتِ التِجارِيَّةِ؟” اِكْتَفَى الباحِثُ بِالقَوْلِ “إِنَّ الجَمِيعَ يَذْهَبُ إِلَى ذٰلِكَ المُجَمَّعِ بِالتَحْدِيدِ”. وَفِي مُؤْتَمَرٍ آخَرَ، عَرَضَ أَحَدُ المُتَحَدِّثِينَ دِراسَتَهُ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَحَدَ التَدَخُّلاتِ العِلاجِيَّةِ لِعِلاجِ الاِكْتِئابِ أَعْطَتْ نَتِيجَةَ 100%، بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعً مِنْ شَمْلَتْهُمْ الدِراسَةُ تَماثَلُوا لِلشِفاءِ. عِنْدَما سُئِلَ عَنْ عَدَدِ المُشارِكِينَ فِي تِلْكَ الدِراسَةِ، أَجابَ “أَرْبَعَةٌ”، وَأَعْقَبَ قائِلاً “أَنا مُدْرِكٌ أَنَّ نَتِيجَةَ هٰذِهِ الدِراسَةِ لا تُعْتَبَرُ عِلْمِيَّةً، وَالسُؤالُ هُوَ: لِماذا تَذْكُرُها إِذاً؟”.
تُعْتَبَرُ الدِراساتُ العِلْمِيَّةُ مِنْ الوَسائِلِ المُهِمَّةِ فِي دِراسَةِ مَوْضُوعٍ ما وَتَسْلِيطِ الضَوْءِ عَلَيْهِ وَمُحاوَلَةِ فَهْمِهِ. وَلَعَلَّ “الهوسَ” بِالأَرْقامِ وَالنَسَبِ وَراءَ هٰذا الزَخْمِ مِنْ الدِراساتِ الَّتِي يَنْطَبِقُ عَلَى مُعْظَمِها “ما أَنْزَلَ اللّٰهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ”، فَهِيَ باختصار نَتائِجَ مُلَفَّقَةٍ لِلتَرْوِيجِ لِفِكْرَةٍ ما. لِذٰلِكَ، قَبْلَ أَنْ نَسْتَشْهِدَ بِنَتائِجِ تِلْكَ الدِراساتِ، يَجِبُ أَنْ نَتَأَكَّدَ مِن أَنَّها بُنِيَتْ عَلَى أَساسٍ عِلْمِيٍّ واضِحٍ وَصَحِيحٍ.
عَلَى سَبِيلِ المِثالِ، قَبْلَ أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّ عَدَدَ المُصابِينَ بِمَرَضِ الاِكْتِئابِ فِي مُجْتَمَعٍ ما يَجِبُ أَنْ نَتَساءَلَ كَيْفَ عَرَفَ الباحِثُ الاِكْتِئابَ وَما هِيَ المَقايِيسُ البَحْثِيَّةُ الَّتِي اِسْتَخْدَمَها وَهَلْ تِلْكَ المَقايِيسُ مُناسِبَةٌ لِذٰلِكَ المُجْتَمَعِ. لَيْسَ فَقَطْ مِنْ ناحِيَةِ اللُغَةِ، لٰكِنْ هَلْ حَكَمَ المِقْياسُ مُسْبَقاً عَلَى أَشْخاصٍ مِنْ ذٰلِكَ المُجْتَمَعِ؟ وَكَيْفَ اُخْتِيرَ الأَشْخاصُ الَّذِينَ شارَكُوا فِي الدِراسَةِ المَعْرُوفِينَ بِعَيِّنَةِ البَحْثِ؟ وَهَلْ هٰذِهِ العَيِّنَةُ تُمَثِّلُ جَمِيعَ فِئاتِ المُجْتَمَعِ وَكَيْفَ تَمَّ الوُصُولُ إِلَيْهِمْ؟ هَلْ اِكْتَفَى الباحِثُ بِإِرْسالِ الاِسْتِبانَةِ عَبْرَ الرَسائِلِ النَصِّيَّةِ أَوْ الواتس آب؟ وَماذا عَنْ الأَشْخاصِ الَّذِينَ لا يَسْتَخْدِمُونَ الواتس آب، أَوْ لا يَسْتَطِيعُونَ القِراءَةَ، أَوْ لا يَمْلِكُونَ الهاتِفَ الذَكِيَّ؟ فِي مِثْلِ هٰذِهِ الحالَةِ، يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الباحِثُ طَرِيقَةَ الوُصُولِ إِلَى عَيِّنَةِ البَحْثِ لِتَجَنُّبِ تَعْمِيمِ النَتِيجَةِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ أَوْ الدَوْلَةِ. كَما يُعْتَبَرُ تَحْلِيلُ النَتائِجِ جُزْءاً أَساسِيّاً فِي اِسْتِيعابِها قَبْلَ الوُصُولِ إِلَى اِسْتِنْتاجاتٍ. فَحُدُوثُ حَدَثَيْنِ فِي خَطٍّ زَمَنِيٍّ مُعَيَّنٍ لا يَعْنِي بِالضَرُورَةِ أَنَّ أَحَدَهُما نَتِيجَةٌ لِلآخَرِ. كَذٰلِكَ، لا يُمْكِنُنا تَعْمِيمُ نَتِيجَةِ دِراسَةٍ أُجْرِيَتْ عَلَى عَدَدٍ قَلِيلٍ مِنْ الأَفْرادِ عَلَى كافَّةِ أَفْرادِ المُجْتَمَعِ. وَعِنْدَ مُناقَشَةِ النَتائِجِ، يَجِبُ مُقارَنَتُها بِدِراساتٍ شَبِيهَةٍ أُجْرِيَتْ فِي مُجْتَمَعاتٍ أُخْرَى وَمُناقَشَةِ أَوْجُهِ الشَبَهِ وَالاِخْتِلافِ وَطَرْحِ التَفْسِيراتِ المُمْكِنَةِ لِتِلْكَ النَتِيجَةِ.
خِتاماً، قَبْلَ الاِسْتِشْهادِ بِدِراسَةٍ ما، يَجِبُ التَدْقِيقُ فِي الخُطُواتِ الأَساسِيَّةِ لِمَنْهَجِ البَحْثِ العِلْمِيِّ كَيْ لا نُساهِمَ فِي التَرْوِيجِ لِأَفْكارٍ لا تَحْمِلُ أَيَّ دَلِيلٍ عِلْمِيٍّ.