الصحوة-عبدالحكيم بن سيف السعيدي
لعل من أوضح الواضحات للمتأمل في تطورات مشهد القطاع السياحي خلال الأعوام الأخيرة أن المشاريع التي نبتت بذورها من عقول الشباب العماني و بنيت لبناتها بسواعدهم صار لها قصب السبق في تقديم منتجات سياحية متفردة حتى طارت بشهرتها الركبان و بلغت بسمعتها ما بلغ الليل و النهار، فأضحت تستقطب أعدادا متزايدة من السياح كل عام.
يميز هذه المشاريع و ما تقدمه أن لها “مهمة وطنية” تجعل منها واضحة الرؤية، محددة الأهداف، تحمل بين جنباتها رسالة التعريف بعمان، تاريخاً و ثقافةً و إنسان.
فمن سياحة الثقافة و التاريخ كما في الحارات القديمة و التي تخبر عن نفسها كلما تعاقبت المواسم و الأعياد- مروراً بالسياحة الرياضية كما في نموذج ” سباق همم”.
سباق همم للجري الجبلي الذي غدى تظاهرةً رياضيةً سنوية تشهدها السلطنة، ولد من فكرة حالمة استشرفت ما وراء حجاب الزمن و آمنت بأن ما يمكن أن يقدمه أبناء الوطن هو خير و أبقى مما قد تأتي به الشركات التجارية العابرة للحدود ، و التي لا تلتفت غالباً لخصوصية المجتمع و هويته المحافظة بقدر اهتمامها بالعائد المادي، و هذا ما كان من أمر “همم” ، فترعرعت الفكرة و نمت حتى صارت واقعاً أصله ثابت و فرعه في السماء.
“همم” اليوم مرآة للوطن ، حيث يتجسد في الحدث الرياضي الذي تنظمه ملامح الشخصية العمانية التي تعكس تشبثاً بالهوية و حرصاً على كرم الضيافة و التفاني في مساعدة المتسابقين خلال مراحل السباق و تفاصيله.
استقطبهم “همم” في موسمه الخامس ليس للتنافس على شرف الوصول إلى خط النهاية في بركة الموز فحسب ، إنما ليريهم أن في هذا العالم الصاخب جنة وادعة آمنة مطمئنة إسمها عمان،، تهوي إليها الأفئدة المتعطشة للسكينة من كل مكان.
إنه لا يبدو كسباق للجري بقدر ما يبدوا كأنه كرنفال!
عند نقطة الإنطلاق.. في مدخل “الحمراء” – حيث لقاءهم- تتفرس الوجوه فترى أعراقاً متمايزة و أعماراً متفاوتة و ألسن تلهج بلغات مختلفة، و كأن سفراء العالم اجتمعوا في تلك البقعة الجغرافية المتفردة من أرض عمان ليشهدوا منافع لهم و يصنعوا لأنفسهم ملحمةً في جبال السلطنة.
ما ينتظرهم ليس شيئا كالتحديات التي ألفوها، إنه نوع غير مألوف من المغامرات، يتجاوز معه العداء رهاب المرتفعات و عدائية التضاريس، و لكنه-رغم ذلك- لا يملك أن يتجاوز سحر الطبيعة الآسرة فيتوقف مشدوها بين الفينة و الأخرى متأملا في جمال صنع الله الذي أتقن كل شي.
انطلاقة من “الحمراء” عالياً نحو الجبل الشرقي و انطلاقة أخرى من إزكي صوب الجبل الأشم..
تختلف المسارات و تتنوع الدروب و يجتمع الجميع ثانية عند النهايات الجميلة في حصن بيت الرديدة..
لم تقف محدودية الموارد حجر عثرة أمام عالمية التنظيم، فحلق “همم” عالياً خلال بضع سنوات متجاوزاً كل التحديات، حتى أصبح مناظراً لأعرق السباقات المعروفة في رياضة الجري الجبلي مثل سباق UTMB الفرنسي الشهير ، يشهد له في ذلك الأعداد المتزايدة سنوياً حتى بلغت في الموسم الأخير أكثر من 1000 مشارك يمثلون أكثر من 65 دولة حول العالم.
و أخيرا فإن منافع هذا الحدث أكثر من أن تحصى أو تعد، و لذلك فإن دعمه و الإستثمار فيه من خلال حرص الجهات الحكومية المختصة على استدامة موارده و تسخير المرافق اللوجستية من أجل إنجاحه و الإستمرار في تنظيمه، و توسيع رقعة المشاركة العالمية فيه هو تعظيم لرأس المال الحقيقي الذي نمتلكه في سلطنتنا الحبيبة متمثلا في السمعة الطيبة و الإنفتاح على الآخر، و هي السمات التي يُنظر إليها كبوابة جاذبة لأي استثمار إقتصادي آخر .