الصحوة – ناصر بن محمد الحامدي
الإيمان الديني ليس مجرد تسليم أعمى أو انقياد وجداني، بل هو منظومة معقدة من الفكر والوجدان والتأمل العميق، إنه تجربة عقلية وروحية في آنٍ واحد، تتداخل فيها الفلسفة والعلم وحقوق الإنسان، فتتجاوز حدود الطقوس إلى فضاء أوسع من الفهم والتأمل والتجربة الحياتية.
يستند الإيمان العميق إلى إدراك أن الكون ليس مجرد آلية عمياء، بل يحمل في بنيته انسجامًا دقيقًا لا يمكن عزله عن معنى أسمى، غير أن هذا الإيمان لا يتعارض مع العقل، بل يجد في الفلسفة والعلم داعمين له، كما يرسخ حقوق الإنسان في إطار فهم أعمق للعدالة والكرامة.
لطالما كانت الفلسفة أداة الإنسان في البحث عن الحقيقة، سواء في ميتافيزيقا الوجود أو في الأخلاق أو في فهم الغايات الكبرى، لكن الفلسفة ليست بديلًا عن الإيمان، بل هي وسيلة لفهمه في ضوء العقل.
يقدم الفيلسوف إيمانويل كانط تصورًا للإيمان العقلاني، حيث يرى أن الدين لا يمكن أن يقوم على الدوغما (العقائد الجامدة)، بل يجب أن يكون متجذرًا في الأخلاق والعقل العملي، أما هيغل، فينظر إلى الدين على أنه شكل من أشكال الوعي المطلق، يتلاقى مع الفلسفة في سعيها لفهم الروح الكونية.
لكن الفلسفة ليست فقط وسيلة عقلية، بل هي أيضًا تجربة وجدانية، كما عند كيركغارد الذي رأى أن الإيمان هو “قفزة نوعية” تتجاوز العقل إلى مستوى أعمق من الوجود، حيث يعيش الإنسان تجربة الإيمان كمعاناة وجودية وصراع بين الشك واليقين.
تاريخيًا، نشأت خلافات بين الدين والعلم، لكنها لم تكن صراعًا مطلقًا، بل تعبيرًا عن مراحل فهم الإنسان للكون ؛مع تطور العلوم، لم تعد المسألة تدور حول وجود تعارض، بل حول كيفية فهم العلاقة بين القوانين الطبيعية والمعنى الأسمى للحياة.
يرى الفيزيائي بول ديفيز أن القوانين الكونية تشير إلى “عقلانية” عميقة في الكون، وهو ما يثير تساؤلات تتجاوز الفيزياء إلى الميتافيزيقا؛ بينما يرى ألبرت أينشتاين أن “العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى”، مؤكدًا أن الانبهار بجمال الكون ودقته هو في حد ذاته تجربة روحية.
العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يجيب عن سؤال “لماذا” الأساسي؛ لماذا يوجد الكون؟ لماذا توجد القوانين الفيزيائية بهذه الدقة؟ هذه الأسئلة تقع في مجال الفلسفة والإيمان، حيث يتكامل العلم مع الرؤية الدينية في تقديم إجابات أوسع.
الإيمان العميق ليس مجرد قناعة فردية، بل له انعكاسات أخلاقية واجتماعية، فهو يؤسس لفهم متين لحقوق الإنسان، ليس كمنظومة قانونية فحسب، بل كمبدأ ينبع من كرامة الإنسان ذاته.
ترى الفلسفة الأخلاقية أن حقوق الإنسان مستمدة من كرامته الجوهرية، وهو ما تؤكده الأديان الكبرى التي تجعل من العدل والرحمة والحرية أُسَسًا جوهرية، فالقرآن الكريم يقرر بوضوح: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70)، مما يؤكد أن الكرامة ليست منحة من السلطة أو المجتمع، بل حق أصيل.
على الرغم من التصورات الخاطئة التي تضع الإيمان في مواجهة مع الحرية، فإن الإيمان العميق يدعم حرية الإنسان، لأنه يعتبره مسؤولًا عن خياراته، فلايكون الإيمان حقيقيًا إلا إذا كان نابعًا من إرادة حرة، وليس نتيجة قسر أو إجبار.
الإيمان الحق يعزز التسامح، لأنه يدرك أن الاختلاف جزء من طبيعة الوجود ؛وقد أكد جون لوك في فلسفته عن التسامح أن الإيمان لا يمكن فرضه، بل يجب أن يكون ثمرة قناعة شخصية، في الإسلام، نجد أن حرية الاعتقاد مبدأ راسخ: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 256).
ختاماً:
الإيمان العميق ليس مجرد عقيدة، بل هو رؤية كونية تجمع بين الفلسفة والعلم والأخلاق،إنه فهم للوجود ينطلق من إدراك أن الإنسان ليس كائنًا معزولًا، بل جزء من منظومة كونية متناسقة.
الإيمان لا يتعارض مع العقل، بل يثريه، ولا يقف في وجه العلم، بل يحث على اكتشافه، ولا يعادي حقوق الإنسان، بل يؤكدها، وفي النهاية، يظل الإيمان تجربة شخصية، لكنها في أعمق مستوياتها، تجربة توحيدية تعكس الانسجام بين العقل والروح والكون.