سيف الوهيبي
يُعدَ العصر الجاهلي، وهو عصر ما قبل الإسلام موضوعًامثيرًا وشيقًا لتحليل وسبر أغوار التاريخ الخاص بالجزيرة العربية، وهو الأمر الذي قل الحديث عنه إلا ما ندر، ويعود السبب إلى أن المؤرخين العرب حددوا نقطة انطلاقة في البحث تزامنًا مع ظهور الدعوة الاسلامية، وغفلوا عن مظاهر حضارية مهمة لعرب ما قبل الاسلام، التي كانت البذرة الأولى للتطور الفكري والحضاري عند العرب، ولعل مشكلة الانقطاع التاريخي لها أسبابها الدينية، مما حدى بالكثير من المؤرخين العرب خاصة والمسلمين عامة إطلاق أفكار في غير مكانها، غير أن الاهتمام بالتاريخ السالف ودراسة تطوره وأسباب ازدهاره وتخلفه وأسباب تدهوره، أمر في غاية الأهمية، فها هي أوربا القابعة في التخلف الفكري والتأخر الحضاري في العصور الوسطى، تعيش أزهى عصورها وأبهى فصولها، ولكنهم لم ينكروا تاريخهم فكتبوه وفصلوه؛ لكي لا يقعوا في نفس المصيدة مرة أخرى، فحَريٌّ بنا دراسة الأفكار، نشأتها وتطورها، شرها وخيرها، ففهم التاريخ يجعل قرارك رشيدًا متبصرًا.
ولعل أهم مصادر تلك الحقبة من الزمن القديم هو الشعر العربي الجاهلي، الذي سنسلط الضوء عليه في هذا المقال، لاستنباط مظاهر العبادة في الفترات الاخيرة من العصر الجاهلي، ونذكر ما سيُذكر ليس رفعة من شأن العرب لما كانوا عليه قبل إسلامهم؛ إنما لكشف حقيقة تاريخية مهمة، فالله جل جلاله عندما أنزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، أنزله في وقته المناسب بدون أدنى شك، فهيأ لرسوله الظروف المناسبة في الفترة المناسبة ، فجاء رسول الله ليحق الحق ويبطل الباطل، وهم – أي العرب في الجاهلية – كانوا على أشكال ومِلل مختلفة نذكر منهم في هذا المقال من هم قريبون من الاسلام، ليدرك العالم أن الاسلام لم يأتي لا فجأة ولا عبثًا، بل نزل تدريجًا وتصحيحًا لما كان عليه العرب قبل الاسلام، فهُم حضارة عميقة متجذرة في تاريخ البشرية.
كان العرب في الجاهلية مهتمين بعلم الأنساب ويعدونه نوعًا شريفًا، فقد كان عبد المطلب (جد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، معروف النسب، سيد الوادي، يعود نسبه لإبراهيم إلى إسماعيل، عليهما السلام، فالعرب تواصلاً لما قبلهم، ومما يروى عنه لما جاء أصحاب الفيل ليهدموا الكعبة، ذهب إلى أبرهة الأشرم وقابله وطلب إبله التي نهبوها، فتعجب ابرهة وقال: أنتم تعظمون البيت، ولم تسألني عنه وتسأل عن إبلك؟! فقال له: (أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه) ثم ذهب وتعلق بأستار الكعبة قائلاً:
اللهم إن كان العـبد *** يمنـع رحله فامنـع رحالك
وانصر على آل الصليب *** وعابديه اليوم آلك
جاءوا بخيلهم وإبلهم *** ليسوا عيالك
والأمر منك وبك ولك *** فاصنع ما بدا لك
وهو ما ذكره البرزنجي والسيوطي عن حنيفية عبد المطلب وهي (ملة إبراهيم)، وما سنذكره في هذا المقال هي جملة من الأشعار ننقلها من كتاب المِلل والنَّحل للشهرستاني، الجزء الثالث من آراء العرب في الجاهلية، تُبرز مظاهر حياة حضارية قديمة لدى العرب.
يظهر في أشعار الكثير من العرب في العصر الجاهلي مظاهر الإيمان بالله واليوم الآخر، نذكر منهم: زيد بن عمرو بن نفيل، نصير المرأة في العصر الجاهلي، كان يسند ظهره على الكعبة، ويقول:
فلن تكون لنفس منك واقية *** يوم الحساب إذا يجمع البشر
ومنهم قس بن ساعده، أنشد يقول:
يا باكي الموت والأموات في جدث *** عليهم من بقايا بزهم خرق
دعـهم فإن لهم يوما يصـاح بهم *** كمـا ينبه من نومـاته الصـعق
حتى يجيئوا بحال غير حالهم *** خلق مضى ثم هذا بعد ذا خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم *** منها الجديد ومنها الأزرق الخلق
ومن هؤلاء النابغة الذبياني، أنشد يقول:
فعلتهم ذات الاله ودينهم *** قويم فما يرجون غير العواقب
وقال زهير بن أبي سلمى المزني عن يوم الحساب:
يؤخر، فيوضع في كتاب فيدخر *** ليوم حساب أو يعجل فينتقم
وعلاف بن شهاب التيمي، قال أيضًا:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة *** فأخذت منه خطة القتال
وعلمت أن الله جاز عبده *** يوم الحساب بأحسن الأعمال
وكان العرب يوصون بدفن راحلتهم إيمانًا منهم بيوم الحساب، فقد كانوا يعتقدون أن من لا تُحشر معه راحلته يحشر ماشيًا، فقال جريبة بن الاشيم الأسدي، يوصي ابنه سعدًا :
يا سعد إما أهلكن فإنني *** أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثر راجلا *** في الحشر يصرع لليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح *** وابغ المطية إنه هو الأصوب
ولعل لي مما تركت مطية *** في الحشر أركبها إذا قيل أركبوا
وفيهم مما ذكره الشهرستاني في كتابه من قواعدهم التي وافقهم عليها القرآن، (فقد كان أقبح ما يفعل الرجل أن يجمع بين الأختين، أو يختلف على امرأة أبيه: وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيزن، قال أوس بن حجر التميمي، يعير قومًا من بني قيس بن ثعلبة، تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة: واحدًا بعد الآخر:
والفارسية فيكم غير منكرة *** وكلكم لأبيه ضيزن سلف
نيقوا فكيهة وامشوا حول قبتها *** مشي الزرافة في آباطها الحجف
وكانوا يطلقون ثلاثًا للتفرقة، ومنه قول الأعشى بن قيس، حين تزوج امرأة وغضب قومها، فهددوه بالضرب أو يطلقها، فقال مطلقًا:
أيا جارتي بيني فإنك طالقه *** كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قالوا: ثنه، فقال:
وبيني فإن البين خير من العصا *** وأن لا ترى لي فوق رأسك بارقه
قالوا: ثلث، فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة *** وموموقة قد كنت فينا ووامقه
وكانوا يطوفون بالبيت سبعًا، ويمسحون الحجر، ويسعون بين الصفا والمروة؛ قال أبو طالب:
وأشواط بين المروتين إلى الصفا *** وما فيهما من صورة وتخايل
وكان العرب يلبون، إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته؛ يظهر ذلك في قول أبو طالب:
إلا شريك هو لك *** تملكه وما ملك
وكان قصي بن كلاب ينهي عن عبادة غير الله من الأصنام، ويظهر ذلك في قوله:
أربا واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الـأمور
تركت اللات والعزى جميعاً *** كذلك يفعل الرجل البصير
فلا العزى أدين ولا ابنتيها *** ولا صنمي بني غنم أزور
وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل؛ ولقي في ذلك من قريش شرًّا، حتى أخرجوه من الحرم، فكان لايدخله إلا ليلاً.
وكان العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم، قال الأفوه الأودي:
ألا علـلالني واعلما أنني غرر *** فما قلت ينجيني الشقاق ولا الحذر
وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت *** مفاصل أوصالي وقد شخص البصر
وجاؤوا بماء بارد يغسلونني *** فيالك من غسل سيتبعه غير
وكانوا يكفنون موتاهم، ويصلون عليهم، وكانت صلاتهم، إذا مات الرجل حمل على سريره، ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها، ويثني عليه، ثم يدفن، ثم يقال: عليك رحمة الله وبركاته.
قال رجل من “كلب” في الجاهليه لابن ابن له:
أعمرو إن هلكت وكنت حياً *** فإني مكثر لك في صلاتي
وأجعل نصف مالي لابن سام *** حياتي إن حييت وفي مماتي
وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابتلي بها ابراهيم –عليه السلام- وهي الكلمات العشر، فإمهن: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما اللواتي في الرأس: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك. وأما اللواتي في الجسد: الاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان. فلما جاء الاسلام قررها سنة من السنن.
وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانت ملوك اليمن وملوك الحيرة، يصلبون الرجل إذا قطع الطريق، وكانوا يوفون بالعهود، ويكرمون الضيف، قال حاتم الطائي:
إلههم ربي وربي إلههم *** فأقسمت لا أرسو ولا أتعذر
وقال أيضا:
لقد كان في البرايا الناس أسوة *** كأن لم يسق بعيرا ولا حمر
وكانوا أناسا موقنين بربهم *** بكل مكان فيهم عابد بكر
هيَّأَ الله جل جلاله الظروف والأحوال لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ،واختارها فترة مناسبة لبداية الدعوة للإسلام، وما كانت التحديات والمصاعب، إلا اختبارًا وامتحانًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما مظاهر التوحيد التي أظهرتها أشعار العرب قبل الهجرة، فقد تكون إحدى هذه الظروف المناسبة، فلا داعي لتجاهلها ونبذها، بل وجب علينا دراستها وتحليلها؛ لنتبين قوة وصلابة وصبر رسول الله واصحابه في مواجهة الباطل وإحقاق الحق.