وسائل الإعلام .. تكامل أم تنافر؟
من يعتقد بأننا نسير في اتجاهات الإعلام الحديث كصناعة وحسب ما يروج محسوبو الإعلام فإنه مخطيء حتى نخاعة لأنه لا زال بين أظهرنا أناس لم يعو حقيقة وظائف الإعلام بمختلف وسائله فباتوا وأصبحوا وأمسوا في مهب عواصف الفقاعة الرخيصة التي تبحث عن إثارة شكلية تقصف منابر الحوار بين أجيال تريد أن تؤسس ثقافة الحوار البنّاء، لتلقي بهم في مرادم التخلف وبتبعية ممنهجة بحيث لا يستطيعون التفكير أبعد من عتبة أنوفهم، فتلك الحوارت لم تسد سغبات الجوع الثقافي والفكري لدى السواد الأعظم، ولم تستطع تكوين توجهات وإيدلوجيات تبنى من خلالها الأوطان، والقارئ والمستمع والمشاهد يُستهزأ به كأنه أضحوكة لا قيمة له في وقتنا الحالي، على الرغم من زيادة جرأة الطرح التي خلعت عباءة الحياء في كثير من تداعيات الرسالة كحديث وتوسع فقط ، إلا أن هناك من يقودها إلى التسويف والخداع وذلك بغية منه في المحافظة على قمة (الهرم الإعلامي ) الذي هرم من كثر قوالبه الممجوجة في اهتماماته، ولم يستطع تخطي هوسه النفسي فكانت نفسه أمارة بسوء الفعل فاختلطت قمة الهرم بخاتمته التي لم تتضح بعد فيما يسمى بالإعلام الجديد أو(social media )، وبالتالي غاب الدور الذي من أجله تأسس الإعلام وفق نظرياته المتعددة ، فطفت على السطح نظرية المؤامرة على وظائف الأعلام الخلاّقة وبقي ما يملء المساحات من كلام معاد وموسيقى صاخبة وإعلانات تبتعد كل البعد عن الرسالة التي من أجلها وجد الإعلام.
إعلام مقروء وتمثله الصحف اليومية والمجلات الدورية ، وإعلام الكتروني (ووسائل التواصل الاجتماعي) يعتمد جُله على النسخ واللصق، وإعلام مسموع ومرئي وتمثله الإذاعة والتلفزيون ، أراها في بنيتها الشكلية واللغوية وحدة واحدة وهذا ما تعلمناه، فهي تشكل تكامل وحدوي وتقارب في الوظائف التي تصب في خدمة المجتمعات، لكن على الواقع هناك تنافر كبير بينها وكل ينفخ في بوق مختلف، وهذا ما نلمسه في كثير من الطرح، وما نراه من بين الفينة والأخرى من إسقاطات على قضايا المجتمع ما هو إلا دور من أدوار وسائل الإعلام الذي ربما اوجدته الصحافة في بدايات رسمن هذا المشهد حيث قامت بجهد كبير في تبسيط وتوجيه الوسائل الأخرى وذلك عن طريق ما يكتب فيها، إلا أن هناك وسائل ومؤسسات تعمل على تهميش دور الصحافة الحقيقية وإسقاط هيبتها بشكل واضح على الرغم من الاقتباسات التي يقوم عليها المشتغلين في تلك الوسائل والمؤسسات، وذلك تحت ستار المنافسة الشريفة للاشتغال على المواضيع الحصرية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: ففي البرامج الحوارية التي يقال إنها خطوة جبارة في ارتكاز الإعلام الإذاعي والتلفزيوني عليها نجد بأنها لم تصل إلى ماهية الحوار ولم تستطع في استقطاب أصحاب الرؤى ومتخذي القرار في مختلف المواضيع التي يطرحها البرنامج، مما أدى إلى قصور في توضيح المحاور ، وهزالة المضمون بشكلة العام، وظهور مذيعين بزي المحامين الذي يتقاطعون مع المستمعين أو المشاهدين، وربما هذا لا ينطبق على الكل.
ما دفعني إلى الكتابة حول التكامل بين وسائل الإعلام كأساس يقوم على احترام متبادل بينها وبين المشتغلين عليها، هو ما نراه اليوم في خضم تدافع الجميع ليكونوا إعلاميين عبر الزج بأنفسهم في مهنة لمن لا مهنة له ولعل الانفتاح الفج الذي يشهده العالم في التقنية هو الذي ساهم في انغماس الجميع لكي يكونوا ناقلين للخبر أو المعلومة للحصول على متابعين أو بلوغ شهرة في الفضاء الافتراضي الغير قابل للقياس، لذا كانت النتيجة ضحك على الذقون، ورسائل معادة لا تعترف بالمصدر وضياع قضايا اجتماعية جديرة بالطرح، وهنا يتضح عدم وجود مهنية متقنة في تقديم تلك الأفكار، لذلك أصبح مزمارهم لا يطرب أبداً، وهذا ما شكل بؤرة للتنافر والتقاطع حول قضايا اجتماعية على وشك الانفجار.
إن انعدام الثقة بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى ضعف المسار وتهشم الفكر، وبالتالي يكون الصحفي مجرد ناقل للحدث حسب ما يردده الكثيرون، وتكون مهنة لمن لا مهنة له كما ذكرت سلفاً، لأن الاحترام المتبادل بين زملاء المهنة غير وارد البتة، وكل يكيل على الآخر بمكاييل الحسد والغيرة، وهذا أثر بدوره على مثلث القيم الإعلامية (الموضوعية والشفافية والمصداقية) وساهم إضعاف الإعلام في رسائلة التي يجب أن يسير عليها وبالتالي انعكس ذلك سلبيا على مكانة الصحفيين والكتّاب الذين يضعون لب أفكارهم من خلال نافذة الحوار الصحفي، فلم يستطع إعلامنا المسموع والمرئي وحراك منصات التواصل الاجتماعي في الاستفادة من هذه الخبرات والكفاءات، ولم يستطع تكوين محاورين لهم ثقلهم المحلي والإقليمي إلا ما ندر ليتعاطوا في مختلف القضايا عن طريق فتح فرصة لإبداء آرائهم وكسر حاجز الورقة والقلم أو نقرات لوحة مفاتيح الحاسب الآلي، مما أثر في نجاح العديد من الأطروحات الإعلامية بمختلف توجهاتها، فظهرت البرامج الحوارية كأنها وجدت لملء مساحات وقتية فقط، إلا ما ندر.
تمتلك صحافتنا المتحولة بفعل الزمن كُتّابا ومحللين وأطروحات بناءة ومبادرات مجتمعية، ودورهم لا يتوقف على الكتابة فقط، وإنما على التحاور العلني في وسائل الإعلام المختلفة، لأن الجفاء الذي أوجدته مختلف المؤسسات في الرد على ما يكتب وينشر في وسائل الإعلام قصم المصداقية وأعلن عن وجود قطيعة مبيتة حتى لا يتحول الإعلام من مجرد ناقل للخبر إلى مقيم للحدث إلى كاشف لمواضع الفساد التي تمادت وأهلكت الحرث والنسل، إذاً الحاجة ملحة لإشعال فتيل التقدير للمهنية الإعلامية والابتعاد عن الإسفاف المقيت الذي ضيّع وغيب هوية الإعلام لأن وقع الطبل فاق كل شيء.
التدفق المعلوماتي التي تشهده الساحة لم يجد الجهة التي تتبناه، كون أن عملية الرصد الإعلامي وتحليل المضمون لما يجد بعد الاهتمام لأننا لم ندرك بعد قيمة الكلمة والحراك الذي قد يولد تقاطعات مجتمعية في الانتصار لحقوق المجتمع التي تحتاج إلى مطالبات مستمرة ومستميتة حتى يجدها الفرد، وقد تحدثت في مقال سابق حول أهمية الرصد الإعلامي وتحليل المضمون كونه يعد أحد أبرز الاتجاهات التي يجب على الحكومات العمل به وفق استراتيجيات التحول والتغيير، وبناء الخطط قصيرة المدى أو طويلة المدى، لأنها تمثل قياساً واضحاً في احتياجات الشعوب وما تفكر به، فكل مضمون مكتوب (مقروء) أو مذاع (مسموع) أو مرئي أو متداول عبر شبكات التواصل الاجتماعي يحمل في طياته الكثير من الرسائل المباشرة أو الضمنية، وكثير من تلك الفنون الإعلامية تقع تحت مسألة “ما بين السطور” أو “ما وراء الحدث” بمعنى: أن هناك رسائل إعلامية مباشرة في متطلباتها ومعانيها، وأخرى رسائل ليست مباشرة وتحتاج إلى تمحيص أكبر، كالمعنى الذي يشير إلى المثل العربي القائل” إياك أعني فأهمي يا جارة”، وهذا ما يعطي للمعلومة أبعاداً مختلفة فتظهر على أثر ذلك مصطلحات ومفاهيم أكثر عمقاً في التعاطي الثقافي البشري، تحتاج إلى مناهج بحث متفردة تُبنى فيما بعد عليها قرارات ذات صبغة جمعية.
تسعى العديد من وسائل الإعلام إلى وضع إطار محدود وإلزام المتلقي بذلك الإطار وهذا ما يسمى بنظرية التأطير، التي ومن وجهة نظري غير متقبلة البتة حتى وإن انتشرت بصورة غير محسوسة، فيما تعمل وسائل أو منابر أخرى إلى الاندفاع نحو شذوذ القاعدة عبر فتح الباب على مصراعية مما أدى وضعها في مواقف محرجة عندما تأتي رسالة صوتية وتبث مباشرة وتحمل كلامات ودلالات خارجة عن حدود الالتزام.
علينا أن نُسلم بأمور كثيرة في منهج الإعلام بكافة أنواعه، كما علينا أن نؤسس شراكة حقيقية بين أقطاب الإعلام حتى يقوم بوظائفه على أكمل وجه ، ومن المعروف بأن وسائل الإعلام قد تستطيع خداع بعض الناس ولبعض الوقت، ولكنها لا تستطيع خداع كل الناس كل الوقت، وبطبيعة الحال فإنها تتأثر بالمشاهدين من خلال منظومة القيم التي يؤمن بها المجتمع، والمفكرون وأصحاب الرأي والمثقفون هم مشاركون في صنع الرسالة الإعلامية وهم جمهور يؤثر في وسائل الإعلام ويتأثر بها في نفس الوقت، وتلك مسلمات لا تظهر ولا يستفاد منها إلا إذا ابتغينا التكامل، لأنه العامل المهم في تقوية إعلامنا.. فلتكون الرؤية واحدة ومتصلة ببعضها البعض .. لتحقيق التكامل لا التنافر، والاستفادة من التجارب الإعلامية الحية التي تتفاعل مع بعضها البعض فتجبر متخذ القرار على التفاعل معها.
هلال بن سالم الزيدي
كاتب وإعلامي