الصحوة – شريفة التوبي
وأنا أعيش الليلة الأولى بعد قرار اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كرونا، المتعلّق بحظّر التجول ليلاً والإغلاق من الساعة السابعة مساءً وحتى الساعة السادسة صباحاً، تذكّرت تلك الجزيرة النائية والبعيدة التي ذهبت إليها ذات سفر، والتي لن أذكر اسمها حتى لا يتحول المقال إلى إعلان سياحي، فأجمل ما في تلك الجزيرة بالإضافة إلى طبيعتها الخلابة،ليلها، الذي ذكّرني به ليل مدينتي الهادىء وأنا أقف خلف نافذتي في هذا المساء، متأملة جمال الحياة الهادئة في الشارع الساكن في عتمة الليل بلا أصوات سيارات ولاإزعاج درّاجات يتعمّد من يقودها افتعال ضجيج يُزعج به جيران الشارع الحالمين بقضاء ليلة هادئة بعد نهار مرهق في العمل.
قلت في نفسي إنه قرار حكيم وجميل، وإن أتى متأخراً بعض الشيء، ولكنه قد يصلح شيئاً من حال صُعب علينا إصلاحه، بعد ارتفاع مؤشر نسبة الإصابات والوفيات التي باتت تقلقنا وتُرعبنا، وربما كنت من أكثر الناس ترحيباً بمثل هذا القرار بقدر ما تمنيته، ليس فقط فيما يخص جائحة كرونا أو هذا الظرف الوبائي الذي يجتاح العالم ويحصد أرواح البشر، ولكني تمنيت أن يكون ليل مدينتي كليل تلك الجزيرة النائية، التي كانت ما أن تغيب الشمسفي سمائها حتى يتم إغلاق المحلاّت التجارية والمؤسسات الأخرى كطقس من طقوس استقبال الليل الذي يأتي رويداً وعلى مهل ساحباً ستارته السوداء على بحر الجزيرة وحقولها وشوارعها ومبانيها، حتى المصابيح التي تضيء الطريق المحاط بالأشجار والورود ما هي إلا مصابيح صفراء بإضاءة خافتة، تزيّن الليل دون أن تسرق منه جمال عتمته، وبين المصباح والمصباح مسافة تسمح لمن يمشي بأن يسير على هدى تلك الإضاءة الخافتة، ومع ذلك لا تتحول الجزيرة إلى جزيرة أشباح في الليل بل إلى حياة ليلية حالمة، لكل من يعشق سحر الليل ولونه الأسود، فالمطاعم والمقاهي الصغيرة تظل مفتوحة في عالم ليلي مفتوح لمن أراد السهر والتعرّف على فنون تلك الجزيرة الفاتنة من رقص وغناء وموسيقى.
في داخلي تمنيت أن يكون ليلنا شبيهاً بليلها، ولكننا كشعوب عربية نعشق السهر، اختلطت لدينا المواقيت، حتى تكاد تظن أنك تحيا في مدن نهارية بلا ليل، مدن لا تميّز ليلها من نهارها، فرغم جمالها لكن وإن طال البقاء بها تشعرك بالضجر والإرهاق، خصوصاً إذا كنت ممن يعشقون الحياة الهادئة، ولعل الحياة العصرية بكل ما فيها من وسائل التكنولوجيا وشبكات الانترنت أصبحت داعية للأرق ومشجّعة لعدم النوم، فتجد الجميع ساهراً حتى ساعات متأخرة من الليل على شبكات مواقع التواصل الاجتماعي أو مشاهدة فيلم على قنوات الأفلام المتاحة، حتى انقلب الوضع لدى البعض بأن يستيقظ ليلاً وينام نهاراً، فقليل جداً من يأوي إلى فراشه قبل العاشرة، وقليل جداً من يغمض له جفن قبل الثانية عشرة، فضجيج الشارع يسرق سكينة الليل، وأضواء الكهرباء تغتال عتمته وسواده، شبكات الواي فاي تستبيح صمته وعزلته، حتى أصبحنا نبحث عن الليل ولا نجده، وعن نجومه وعن قمره فلا نعثر عليهما، وبعد أن أخذنا من الليل لباسه ومن النهار معاشه تم اغتيال الليل برصاصة الضوء فضاعت من حياتناعافيتها..
فماذا لو يصبح هذا القرار الملزم لنا بالبقاء بعد السابعة في بيوتنا أسلوب حياة جديدة نحياها، وأن نطبّقه من تلقاء أنفسنا حبّاً بأنفسنا وحياتنا ورأفةً بهذه البيئة التي ضجّت بفوضانا وضجيجنا عليها ليلاً ونهارا، فنكتفي من الليل بمقهى أو مطعم نلتقي فيه بمن نحبّ على ضوء شمعة ونحن نستمع لصوت فيروز وهي تغني رائعة جبران خليل جبران..
“سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيون ترصد الأيام “.