الصحوة – د. نوال بومعزة
من بين العلاقات الإبداعية المتميّزة التي يمكن لقارئ السرد العماني أن يستننجها علاقة الكاتب العماني بتراثه.
إن قراءة عدد معين من منجزات السرد العماني سواء أكان قصة أو رواية أو مسرحية يؤكد التوّجه القوّي إلى التراث والتاريخ باعتبارهما مادة خام ينهل منها الكاتب القوالب و الأشكال لصبّ قضايا الوطن والأمة والانسانية.
من الكتّاب العمانيين الذين جسدوا هذه العلاقة بشكل مباشر وصريح الكتاب العماني خالد بن سليمان الكندي من خلال العديد من منجزاته الإبداعية من مثل:
رسالة إلى قورش، حكايات من نخل،الجاعد الأبيض، القافر،أم الدويس، مرارة الذئب.
يبدو أن الكاتب قد حدد توّجهه في الكتابة من خلال الاغتراف من منبعين أصيلين هما: التراث و التاريخ، ففي رواية القافر اتجه خالد إلى التراث، فأعلنها صراحة على الغلاف: ” في سلسلستنا حكايات من التراث العماني نجتهد في كل عدد في تحوير حكاية شعبية إلى قصة ذات صبغة فنية تتضمن مشاهد مشوّقة، تروى لجيلنا الحاضر الحياة التي عاشها أجدادنا وأباؤنا. فتقرب إليهم صورة ذلك الزمان على خصوصية أدواته. و سمات شخوصه. و ظروف بيئاته.”
إنّ فطنة الكاتب خالد الكندي مكنته من أن يتحوّل إلى قافر يبحث في التراث، ويمحّص الحكايات الشعبيية التي يمكن تحويلها إلى مادة سردية لها تشكيلها الخاص، وتسهم في تحويل النص إلى متعة وفائدة، فالمتعة تكمن في جمالية الناحية الفنية كاستراتجية اختيار الشخصيات وتحديد مساراتها السردية والعلاقات والأدوار التي تربط بينها، ورسم البنيتين المكانية والزمانية، ولأن كل كاتب يبحث عن التميّز، فقد تفرّد خالد الكندي بموضوع القفر، وهو مجال يكاد يجهله القارئ.
ترتكز البنية السردية في حكاية القافر على المسار السردي الذي اتخذته عصابة سلام الشاب الذكي الذي امتهن القفر إلاّ أنه استغل هذه الموهبة في أمور سلبية كخداع الناس والسرقة. لقد أراد خالد الكندي بقصد أو بغير قصد تحويل القارئ إلى قافر محلل يبحث عن نهاية لذلك الصراع الخفي بين الوالي وسلام، فأثث الحكاية على مجموعة من العناوين الفرعية: شهقة، نهاية المرسى، الشبح، عودة المشوق، شفاعة، اللصوص، ياسر نقمة، شيمة وكرم، شجار، مهنة جديدة، صراع الدخان، الاختبار، الغبن، مقارعة العقول، لص الشياه، مجادلة، العملية الكبرى، الخطة، الوكر، ابتعاث، السيح، القزم، الخدعة، مسائل نحوية، المطاردة، تقريع، مرسى(بركاء)، هجوم، ضيافة، إقلاع، المحاكمة.
تسهم هذه العناوين الفرعية في تتبع مسار السرد، وتساعد القارئ في فهم الحكاية، والتمتع بحسّها البوليسي الذي يجذبه إلى سحر الألغاز، ومقارعة العقول، نقرأ:”بدأت تتبع الخيط من أشجار الموز..فعلى الرغم من أن تراب (وقف الصاروج) كان مملوءا بآثار الأقدام التي لاتنقطع عن مرورها عليه، فإن الآثار التي تكررت كثيرا تحت أشجار الموز المسروقات كانت آثار النعل وحذاءه، فأما النعل فهي نعل الوالي التي لطالما رأيت آثارها في أرض الحصن وخارجبوابته وفي السوق فحفظتها عن ظهر قلب، وأما الحذاء، فهو حذاء العساكر،حذاءءهم ليس له إلاّ نقش موحد يعرفه الجميع…” القافر،ص60
تخللت حكاية القافر العديد من الآليات التجريبية في القص كتوظيف الأسلوب البوليسي في الحكي ــــ كما قلنا سابقاـــ ومحاولة تلقين القواعد النحوية بواسطة السرد، وهو نوع من الجمع بين الثقافة السردية وملكة النحو مثاما ورد في الجزء المعنون” مسائل نحوية”،فلم يكبح الكاتب حبه للنحو العربي، فراح يلقن بعضا من قضاياه علر لسان الوالي،وهو يجتمع بطلابه نقرأ: ” وخلاصة القول يا أبنائي في مسألة مطابقة الفعل للفاعل في العدد أن الفعل إذا تقدّم على الفاعل فإنه يبقى مفردا حتى لوكان الفاعل مثنى أو جمعا، فانت تقول (حضر الرجل) و(حضر الرجلان) و(حضر الرجال)..” القافر،ص102
يعد التاريخ المنبع الأساسي الثاني الذي يغترف منه الكاتب خالد الكندي، وقد سار بذلك على خطى الجيل الأول من كتاب الرواية العربية في العصر الحديث كجورجي زيدان وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ وغيرهم. ولعل رواية الجاعد الأبيض تعكس النفس الطويل في الكتابة، ومدى التطوّر الذي يشهده السرد العماني في الآونة الأخيرة، والرواية منجز يؤكد تمسك الكاتب العماني بتاريخه وإعادة تمثله ليسرد قضايا الراهن. تحضر شخصية العلامة والمصلح أبي زيد عبد الله بن محمد الريامي(1884ـ1945) شخصية محورية في رواية الجاعد الأبيض، وقد استلها الكاتب من التاريخ العماني مركزا على ضرورة أخذ العبر والدروس من أحداث الماضي، فالتاريخ سجل لايمكن تغييبه خاصة وأن شخصية العلامة كان لها دورا فعّالا في النهوض بقرى ومدن عمان في الحربين العالمية الأولى والثانية، وهي فترة صعبة لاتطاق. قدمت الرواية المشروع الإصلاحي للعلامة، فكانت بهلاء نموذجا اقتصاديا واجتماعيا ناجحا. مسّت زواياه الإصلاحية :
- الجانب الاقتصادي، حيث قام العلامة بإصلاح الأفلاج، واستغلال الأراضي، وتخزين الحبوب، فازداد بذلك مخزون بيت المال.
- الجانب الاجتماعي: أمر بتزويج العزاب، ومساعدة الفقراء.
- الجانب التعليمي: التشجيع على التعلم، وحفظ القرآن الكريم.
- الجانب الأمني: عمّ الأمن، واختفى قطاع الطرق الذين كادوا له المكائد بمساعدة التجار الذين لم تعجبهم هذه الإصلاحات.
- م ينس الكاتب تقديم الجوانب الشخصية للعلامة أبي زيد، فذكر أساليب تعامله مع أهل بيته، وكيف كان يحثهم على الزهد والتقشف،حتى بعد وفاته لم يترك إلاّ جاعدا أبيضا، ومن هذه التركة الزهيدة انتقى الكاتب خالد الكندي عنوان الرواية.
- ولأنّ الكاتب يدرك جيدا أنّ المادة التاريخية تكون ــــ في أغلب الأحيان ـــــ ثقيلة على القارئ فقد طعّمها بالمتخيّل السردي الذي يتحد مع الجانب التاريخي في إضاءة جوانب من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في منطقة إزكي خاصة قصص الأطفال ومرحهم وقصة سرقة الأمبا، وقصة الثور..إنّ محاولة بثّ الحس الفكاهي للسرد التاريخي في بعض المقاطع السردية من الرواية لهي الطريقة المثلى لتكسير تتابع الأحداث التاريخية، نقرأ من رواية الجاعد الأبيض:”ثم أردف مسلم يتابع حكايته:
ــ وأنتم تعرفون أن خميسان حاشكم يربي كلبا..ويربط هذا الكلب بسلسلة حديد. ضغط على حروف كلمة سلسلة حديد مفخما هالتها، فاهتزت رؤوس الحاضرين متفاعلة مع فخامة الحديد، قبل أن يواصل مسلم فيهبط بنغمته قائلا: لكنها سلسلة حديد خفيفة جدا.شعرت عقول الحاضرين أن مسلم يستهتر بها، لكن قاوبهم لم تطاوع عقولهم، بل ظلت معلقة لاقصة المثيرة وأسلوبه الجذّاب..” الجاعد الأبيض،ص29،ص30
ومماسبق، يبدو أن الكاتب العماني خالد الكندي قد اختار الطريق الأصعب الذي يتطلب دراية واسعة بالتاريخ والتراث، وهو الطريق ذاته الذي سلكه رواد الأدب العربي الأوائل. منجزاته تستحق الدراسة والمتابعة، وهي منفذ أدبي للإطلاع على التراث العماني والتعرّف على شخصياته التاريخية.