الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
يتباكى بعض الساسة العرب والمسلمين، عندما يظهرون على شاشات التلفزة وهم يتحدثون عن قضية فلسطين المحتلة، ويتبارون في استخدام مفردات اللغة وبلاغتها في اجتماعاتهم التي يسمح لوسائل الاعلام حضورها، حتى أنه ليُخيّل للمستمع أنه بعد كل اجتماع أنهم سائرون لتحرير القدس والمسجد الأقصى بل فلسطين كلها في التوّ واللحظة، وأن زمن الإحباط العربي وليله الطويل قد ولّى من غير رجعة، وسرعان ما تظهر الحقيقة المعتادة، أن كل ذلك كان مجرد فقاعات على سطح الماء سرعان ما تتلاشى إذا لامسها هواء لأنها في نهاية المطاف خواء، يراد بتلك الكلمات والمفردات وفصاحة الخطاب تخدير الشعوب العربية والإسلامية، أما في واقع الأمر فإنّ اغلب الدول العربية والإسلامية تخطب في الخفاء وفي العلن ودّ إسرائيل في علاقات من التعاون المختلفة .
ولم يكتفِ البعض بهذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فأعلن عن تطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني نهاراً جهاراَ، وظهر أحدهم متفاخراَ متبجحاً ليقول للناس ؛ نحن نصنع التاريخ ، نعم قد يكون تاريخاً، لكنه تاريخ يحمل الخيانة والذل والعار، أما التاريخ المشرّف، فيحتاج إلى رجال شجعان يسطرونه بأرواحهم ودمائهم وفكرهم وإبداعاتهم، هكذا تكون صناعة التاريخ أيها الواهم المصدق نفسه بأنّك تملك قرار نفسك وما أنت إلا دمية يتم العبث والتلاعب بها.
ولقد صدقَت فيك المقولة المشهورة ” إلا الحماقة أعيَت من يداويها “، فقد ظهر أحد السفراء العرب ليعلن في مؤتمر صحفي في نهاية سبتمبر بأنّ سلطنة عمان وجمهورية السودان سوف يطبعان علاقاتهما مع إسرائيل خلال ايام قلائل، وهنا تثور عدة أسئلة عن هذا الدبلوماسي المخضرم، إذ كيف سمح لنفسه أن يتحدث بإسم دولة ثانية – وأنا هنا لا تعنيني سوى سلطنة عمان – بلدي – لأسأله : من أنابك في التحدث عن ذلك؟ وهل تم تعيينك متحدثاً باسمها؟ وهل هذا مقبول في الأعراف الدبلوماسية ؟ ، أيها السفير المغلوب على أمرك، إنّ قرار سلطنة عمان ليس بيدك ولا بيد دولتك ولا حتى في العاصمة التي أنت ممثلاً بهلوانياً لبلادك فيها، وإنما القرار العماني يتمّ صياغته وصناعته هنا في عمان، ومن منطلق سيادي في عهدة ولي أمرها وسلطانها أبو ذي يزن المعظم .
إنّ عمان ومنذ قيام نهضتها المباركة، تناصر القضية الفلسطينية قولاً وفعلاً، بلا مزايدات أو إعلانات دعائية، وقد اعلن عن ذلك جلالة المغفور له السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور في جُلِ خطاباته الداخلية والخارجية، وبذلت الدبلوماسية العمانية في المنابر والمحافل الدولية في سبيل حل القضية الفلسطينية، جهوداً كبيرة، ولم تترك باباً إلا وطرقته، والإخوة الفلسطينيون يعلمون ذلك جيداً، فسياسة عمان حول هذه القضية تقوم على الأسس الأتية :-
* إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة تامة .
* اعتماد حدود ومساحة هذه الدولة على حدود ١٩٦٧م .
* تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين.
* إعادة كل الحقوق المسلوبة والمغتصبة للشعب الفلسطيني، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
هذه هي مرتكزات الموقف العماني، والذي تدركه السلطة الفلسطينية وحركة حماس، وهو موقف دائم وثابت وراسخ، ولهذا فإنّ الرؤية العمانية ترى أن أي سلام خارج تلك المرتكزات ، لن يحقق السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وستظل المنطقة على بركان من الحمم الملتهبة، يمكن أن ينفجر في أي لحظة، ذلك أنّ الشعب الفلسطيني شعب جبّار وصاحب حق لا يمكن أن يستسلم ويدع المقاومة .
لم تتوقف الجهود العمانية عند هذا الحد، بل بذلت كذلك جهوداً واضحة، لرأب الصدع والانشقاق داخل الصف الفلسطيني الذي تتقاذفه الاختلافات والصراعات الأيديولوجية والفكرية، صراعات لا طائل لها، تقوّض كل محاولة للاتفاق، وهذا الاختلاف يستفيد منه العدو الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته فيه أضعاف للسلطة الشرعية .
وممّا يؤسف له حقاً، ذلك الهرج والمرج والاتهام لسلطنة عمان، وهي من هي في المواقف الثابتة على المبدأ، سواءً كان هذا الحرج من السياسيين أو المحللين الحمقى ، على إثر زيارة نتنياهو لسلطنة عمان في حياة السلطان الراحل، حتى أننا اتهمنا بالخيانة وبيع القضية الفلسطينية، ونقول لهؤلاء ليست عمان من تبيع أو تشتري أو تساوم أو تتسول على حساب الشعب الفلسطيني الصاحب الفعلي للقضية، ولكن وبحسب رواية بعض الإعلاميين الذين شرفوا بمقابلة جلالته رحمه الله، ذكر لهم ما مفاده ؛ أنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي اتصل به طالباً زيارة السلطنة، وأنه على استعداد للتنازل عن الأرض مقابل السلام مع الفلسطينيين، هنا كان جواب جلالته بأنه لا بد من استشراف رأي السلطة الفلسطينية، وبالفعل زار الرئيس مجمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية مسقط، والتقى بالسلطان الراحل، ويبدو أنّ الأول لم يُمانع في زيارة نتنياهو. لنرى بعدها سيلاً جارفاً من الاتهامات تنهال من كل حدب وصوب، واشتغل الذباب الإلكتروني في الدول الموبوءة والموسومة بالنقص بالعمل على ما جُبلوا عليه من خساسة ودناءة، ومع كل هذا فإنّ الموقف العماني لم يتغيّر ولن يتغيّر، لأنه موقف قائم على الحق والعدل، لا على المصالح التي تتبدل بتبدل الظروف الدولية، ومن هنا جاء رد وزير الخارجية العماني من أعلى منبر عالمي ليلجم من يهرول نحو التطبيع دون مقابل، فعمان لا تحتاج إلى حماية أحد وعرش السلطنة محمي بلحمة ووحدة والتفاف العمانيين حوله، بدليل أنّ الأسرة المالكة على امتداد عمرها الطويل الذي يبلغ حتى الآن مئتين وستة وخمسين عامًا، وهي أعرق أسرة حاكمة في العالم، يزيدها الزمن رسوخاً وعنفواناً وشموخاً، برضا وقناعة وإيمان الأمة بها وحولها.
وأخيراً، أقول لكل هؤلاء : اذهبوا إلى التطبيع إن شئتم، فنحن مع الفلسطينيين، ومع ما يقررونه ويرتضونه، وعليهم أن يعلموا أن قضية الأقصى المبارك ليست قضية الفلسطينين، وإنما هي قضية كل العرب والمسلمين .