الصحوة – خميس الغزيلي
تقِفُ مذعورةً وحدها، بردُ الشتاء يلامسُ جِلدها الناعِم، يداعبُ خصيلاتِ شعرها المنبثقة مِن تحت الحجاب، يخيفها كخوفِها من صوت البرق والرعد؛الطلقات والدبابات التي تفتكُ البيوت بلا رحمة، وتنهكُ عرض الحُرمات، حرمةُ دِين ودَين، فـ مع كُلِّ ساعة تدق عقاربها مشيرةً إلى أخرى تشعُ مدائن وتنيرها بقذائف هوجاء. لا شفاعةَ لمن هو في المهدِ ولا لكهلٍ ولا حتّى لذوي احتياجٍ خاص، تُبيد وتصعقُ كلَّ ما يعيقُ حركتها.
تحتَ قسوةِ برد الشتاء مُحِيَت بسمة مِن وجهها الملائكي، دُمرت أحلامُ يقضتِها، لم تشفعُ لها ضراوة وجهها الصغير ونقاوة جوهرِها، حتّى اتّساع حدقتها وهي تلمعُ مِن الدموع لم تشفع لها. مُحقَت عفّة، ولا وجود للرأفة.
تعالت أصواتُ الدبيب رغم خفّتها، الوغى يعجُ في الأرجاء، وطئات أقدامٍ ودقاتِ حذواتٍ تثقبُ طبلة الآذان، وقعٌ ليست مجهولةً نهايتهُ، سيهدمُ ويزيد استفزازًا لهم، يضفي مشاعِر لاذعة في جوفهِم، يحترقونَ ولكن بصمت، والبعض الآخر يلوذ بالفِرار، فهم أبناء وطن لا ينتمون إليه.
يقتربُ الوقعُ شيئًا فشيئًا، يخرج على أثرهِ جنودٌ ضعيفة، سلاحهم حجرٌ ملقيّ، ودخانٌ صنعوه مِن احتراق جِذع شجرة، لا أسلحة نووية لهم ولا قنابلَ فتّاكة، يقاومون بالرداء الأسود، ويهتفون لقومهم “كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا”، حاملين راية “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، ثم يبدأون القِتال.
قتالٌ يتبعهُ صرخاتُ نذيرٍ محذرًا مِن عدو، وهيجان في المكان يغدو، تجدُ رياح تهب، وصياحٌ يدبّ. الجمعُ يخرجُ عن طوره، يواجهُ بكل ما أوتي مِن قوّة، يقاوِمون ويمسحون المدامع بطرَف اللثام، أفراحهم تكمن في سقوطِ جُندي مِن عدوهم، وعند تقهقرهم بعيدًا
حينَ يشتُّد النِزاع.
غريمهم جبان، لا ولن يكون منتصرًا أبدًا مهما كان، الكثرة لا تغلبُ الشجاعة هنا، فالشجاعة أحدثت مجاعة أكلت حنانَ قلب. اللبُّ الضعيفُ المستصغر مِن قبلهم -بسبب قلّة مواردهِم- ينقبضُ ممسكًا بنبض قوّة، يدميهم بحجر، حتّى وإن ضاق عليهم المفر.
أطفالهم مِن المهدِ تراهم يهجعون لصدى الطلقات وهي تتردد في آذانهم، يكبرون على الوقع المهيب وهو في مسامعهِم، يخترقُ أعلى نقطةٍ فيهم حتى يكاد يكونَ فطرةً في أجسادهم، ثغرةٌ تنامت وهم عاجزون عن سدادها.
الجزعُ على كاهلها ربّتْ، تعلّقَ بها وتشبث، يبقى يُلازمها في حلّها وترحالها، عندما تجوبُ الأنقاضَ بحثًا عن مخبأ، وعندما ترتحلُ مِن بقاعٍ إلى بقاع؛ هجرانًا لما وراءها من دمار، لا يفارقها أبدًا، يعيشُ فيها كما لو أنه ساكنها، يقطنُ في جسدها ويعمّرها قلقًا وذعرًا فوق ذعرها الدائم، وكأن لو سألت عن حالها، لأجاب الذعر أنا حلُّ بها.