الصحوة – د. حمد بن ناصر السناوي
تقول إحدى الطبيبات “كنت وأنا حامل في الأشهر الأخيرة أعمل في جناح الأطفال حديثي الولادة وفي إحدى مناوباتي تدهورت صحة أحد الأطفال واستدعى الأمر أخذ المزيد من عينات الدم وتركيب أنبوب للتنفس، وكنا على دراية بأن والدي الطفل يشعران بالإحباط لأن حالة طفلهما لم تكن مستقره منذ ولادته، ورغم أنني وباقي الفريق الطبي كنا نعمل جاهدين لمعالجة الطفل إلا أن والدة الطفل كانت تشعر بالغضب بسبب الفحوصات التي كنا نعملها، التفت إليّ وهي تقول “عسى يطلع الطفل اللي في بطنك مشوه”، كتمت غيظي وأكملت عملي وقمنا بنقل المريض إلى قسم العناية الخاصة واستقرت حالته ولله الحمد، وقبل أن أنام تذكرت كلام تلك الأم وشعرت بالحرقة والألم وتساءلت “ماذنب طفلي الذي لم يولد؟” وفي الصباح ذهبت لاطمأن عن المريض في غرفة الإنعاش، كانت الأم تنتظر خارجا، بدا عليها الخجل عندما رأتني وقامت بالاعتذار عن كلامها الجارح، لم يكن لدي ما أقول سوى “عسى خير”.
لا شك بأن العديد منا يخطأ في حق الأخرين من حوله وربما يوجه لهم الكلام القاسي دون قصد، البعض يعتذر عن سلوكه ويكون اعتذاره نابع من القلب، وتختلف ثقافة الاعتذار بين الأفراد في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة؛ لذا نجد أشخاص يرفضون الاعتذار لاعتقادهم بأنه دليل على ضعف شخصية المتعذر وربما يجعله هدف سهلا للاستغلال من الأخرين، فتجده يبحث عن أسباب لتجنب الاعتذار أو يقوم بإلقاء اللوم على الطرف الأخر، أو الدخول في دائرة من الاعتذار المشروط “لن أعتذر ما لم تعتذر أولًا”، أو ربما لأن البيئة التي عاشوا فيها طفولتهم لم يكن الاعتذار من السلوكيات المقبولة، بل يمكن أن يحدث النقيض أحيانا عندما تعتذر ليصدمك الطرف الأخر برده” وماذا أفعل باعتذار؟ . ومن أنواع اختلاف ثقافة الاعتذار بين الشعوب نجد بعض الدول الغربية تطلب من المجرم الاعتذار للضحية، وفي حالة ارتكاب جريمة القتل يتم الاعتذار لأسرة الضحية، فعبر الاعتذار يثبت المجرم إنسانيته وندمه و رغم أن هذا الاعتذار لا يخفف من العقوبة إلا أنه يعطي المجرم فرصة للتوبة وإخلاء الذمة كما أنه قد يشير بأن هناك أمل في تأهيل هذا المجرم؛ ليصبح مواطنا صالحا بعد قضاء فترة العقوبة، أذكر أني قمت بمعالجة سيدة بريطانية تعرضت لحادث سير وهي في طريقها لولادة طفلها الأول حين ارتطمت سيارة اخرى بالسيارة التي كانت تقلها للمستشفى مما أدى الى إصابة الجنين ووفاته، ورغم أن المحكمة أثبتت خطأ السائق الآخر وتم معاقبته إلا أنها استمرت تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة وكانت تشعر بالغضب؛ لأن السائق الذي اصطدم بها لم يعتذر وكانت تردد” وكأن خسارتي لطفلي ليست بالأمر المهم”
تشير الدراسات النفسية أن الاعتذار يختلف حسب التركيبة النفسية للمخطئ، فهناك الاعتذار الشكلي الذي يقوم به الشخص فقط لرفع العتب وأداء الواجب دون أن يكون صادقا في إعتذاره، واعتذار المجاملة الذي يحدث عند ارتكاب خطأ بسيط قد لا يستدعي الاعتذار وربما يكون الهدف منه المجاملة ولفت الانتباه. أما الاعتذار الصريح فينتج عن قناعة المعتذر بخطئه وسعيه لإصلاحه، ومن آداب الاعتذار ان تبادر به فور وقوع الخطأ ولا تقم بتأجيله ولا تكابر فأن عبارة “أنا آسف” يمكنها أن تذيب الخصومات والأحقاد وتعيد العلاقة إلى مسارها الصحيح، لا تتحجج بالكرامة وعزة النفس ولا تستسلم لوساوس الشيطان الذين يحاول اقناعك بأنك على حق، فقط كن صادقا مع نفسك وافعل الصواب. وكما أن الاعتذار واجب، فإن قبول الاعتذار والتسامح واجب أيضا، فهو لا يعني قبول الإهانة، بل حفظ الود وروابط الأخوة والصداقة، كما أن قبول الوالدين لاعتذار الأبناء مساعدة لهم على البر بهما.
بقي أن نقول بأن ثقافة الاعتذار يجب أن تزرع في نفوس الأطفال من سن مبكرة؛ لتصبح جزء من شخصياتهم فبذلك ينشؤون على التحلى بالتسامح والاعتذار دون تردد أو خجل أو شعور بالضعف.