الصحوة – د. حمد بن ناصر السناوي
بعض الاستشارات تترك أثرا صعبا في النفس ، ليس لصعوبة الوصول إلى تشخيص بل بسبب المشاعر التي تجلبها ، هذا ما حدث عندما حضر إلى العيادة أحد أساتذتي القدامى وهو طبيب إستشاري متقاعد في السبعين من العمر ، ظهرت عليه أعراض مرض الزهايمر فأصبح يحضر حقيبته كل صباح ويلبس معطفه الأبيض في إنتظار إتصال من الممرضة كي تخبره بأن المرضى ينتظرونه في العياده ، يطول إنتظاره و لا يرن الهاتف ، تشفق عليه زوجته وتناوله كوبا من القهوة ، يفتح حقيبته ويخرج قصاصات ورقية يدون فيها تقارير لمرضى بدون أسماء ويكتب وصفات لأدوية لم تعد موجوده ، يمرالوقت كئيبا ويشعر بانه سجين في بيته ، فكر في الخروج في نزة بسيارته لكن أبنائه تخلصوا منها بعد أن فقد طريق العودة الى المنزل آخر مره ، وهام في شوارع المدينة بدون هدف ونفذ وقود السيارة وإضطر الوقوف على جانب الطريق حتى استوقفه الشرطي و أعاده الى المنزل .
في الأسبوع الماضي إقترح علي أحد أصدقاء الفيس بوك مشاهدة الفيلم البريطاني “الأب ” للممثل المبدع “أنتوني هوبكنز” والذي يجسد فيه شخصية رجل في الثمانين من العمر يصاب بالزهايمر اسمه “انتوني” فتضطر ابنته الوحيدة ان تأخذه ليقيم في بيتها رغم تذمر زوجها ، يظهر الفيلم الاعراض المختلفه مثل الشك والريبة في من حوله عندما يفقد ساعته ، ويتقلب مزاجه و تراوده الخيالات البصرية وتختلط الوجوه والأماكن أمامه و يفقد القدرة على التعرف على المنزل و يكرر السؤال عن ابنته التي توفيت في حادث سير وكأنها لا تزال على قيد الحياه ، وفي نهاية الفيلم يبكي ” انتوني ” بحرقة وهو يسال الممرضة عن أمه وينتظر زيارتها لتخرجه من دار المسنين.
ينجح الفيلم في توضيح معاناة الابنة في رعاية الأب و الضغوطات المختلفة التي تتعرض لها ، ويبدع الممثل في تجسيد معاناة المريض حيث تتكرر المشاهد داخل شقتة صغير تارة نحسبها شقته “أنتوني ” و تارة آخرى شقة الابنة ، فيعيش المشاهد نفس الحيرة التي يعيشها المريض ، تختلط عليه الاحداث أحيانا فتصبح كقطع من الألغاز والاحجية يحاول حلها لكن دون جدوى .
يعتبر مرض الزهايمر وغيره من الاضطرابات الإدراكية من الأمراض التي عادة ما تصيب كبار السن و تؤثرعلى قدرة المريض على القيام بأبسط المهام اليومية ، تبدأ الاعراض عادة بالنسيان المتكرر فيفقد المريض محفظتة و نظارته و مفاتيحه و يشعر بالتوتر الشديد حين لا يجدها و يعيد تكرار نفس الأسئلة لمن حوله و يفقد القدرة على تمييز الزمان والمكان والأشخاص و يعجز عن إتخاذ ابسط القرارات وقد يصبح عرضة للابتزاز خاصة عندما لا يستطيع التعرف على النقود او الاحتفاظ بالرمز السري لبطاقة البنك ، وربما يخرج من منزله دون إغلاق الباب أو ينسى الاكل على النار مما يعرض حياته للخطر بسبب الحريق واحيانا تظهر الاضطرابات السلوكية مثل العصبية والتوتر الشديد والعدوانية تجاه من حوله فيسب و يشتم دون مراعاة لمشاعر الاخرين و يمر مريض الزهايمر و مقدمي الرعايةبما يسمى رحلة الوادع الطويل ، تلك الرحلة التي يجتاز فيها المريض وأفراد أسرته محطات عديده بداية من إنكار وجود المرض و تفسير الاعراض بكونها “مجرد تقدم في العمر” ، ثم الغضب من المريض لاعتقاد بعض افراد الاسره أنه يتصنع الاعراض و يخلق المشاكل والخلافات ، ثم الإحباط والاستسلام عندما يفقد المريض القدرة على أداء ابسط المهارات الحياتية مثل الاكل و الاهتمام بالنظافة الشخصية ويختلط عليه الزمان والمكان ويقتنع بأن يعيش في الماضي.
أعترف لكم بأنني بكيت في نهاية الفيلم ليس فقط تعاطفا مع شخصية البطل ولكن لان العلم والطب الحديث لما ينجحا في إنقاذ مرضى الزهايمر ولانني وزملائي من الأطباء لم نفى بوعودنا للمرضى عندما نخبرهم بأن كل شي سيكون على ما يرام .
حفظكم الله من كل سوء.