أين الإبداع ؟
في بحر الحياة تتلاطم أمواج المتناقضات ويشتّد مدّها لتجرف معها أشياء كثيرة.. ومن بين حطام السائرون بعنف تحيى أرواح فتشق طريقاً لا تخاف دركاً ولا تخشى.. لتتبلور قيم الإبداع فتنمو رويداً رويداً ويكون صداها مدوّياً حتى ولو بعد حين لأنها ولدت من رحم التأزم فأوقدت شرارتها وتهادت بين ظهراني الواقع.. ذلك هو مشهد ممتد بامتداد الجغرافيا ومتمكن بتمكن أنفاس الإنسان في جسده والمرتقي بعلمه وعمله.. لذلك تبادر إلى ذهني علامات كثيرة تبدأ بتوصيف الإبداع وحمله على نقيضه عندما تُبنى عليه أسوار العزلة مع سبق الإصرار والترصد، ومروراً بالتحور الشكلي الذي تظهر فيه المعرفة لتضمحل وتهزل ثم تختفي مضموناً ويبقى ثُغاء النعاج الباحثة عن كلأ يسد صرير معدتها دون قيمة غذائية.
يعتبر التهميش والتهشيم بوارج تقضّ من إنسيابية الإبداع والتصاقه بالمجتمع فتحوّر مبادئه ويعلو غثه على سمينه وتختفي المعرفة، ولعل تلك المرحلة هي ما نشهدها الآن في فضاء السموات المفتوحة التي يعرج إليها كل شيء دون وجود للنقد الذي يؤسس مفردات الإبداع أو بالأحرى دون وجود تقبّل وآلية واضحة ونفوس تقبل بمد جسور النقد لتأصيل ذلك الكم الهائل من المعلومات المتدفقة لمجرد الوصول دون الصمود في وجه المتغيرات أو التوافه من التصرفات اللإنسانية لتكون ثوابت إنسانية فيما بعد، ومنها تضمحل منابع الإبداع ليصبح المسخ الغريب ضرباً من فنون الإبداع أو جنوناً تحت مسمى الخروج عن النص أو كما هو متداول ” الجمهور عايز كده”.
لم يخضع الإبداع الإنساني في عنفوان ألقه وتمدده إلى رغبات وعواطف سطحية وإنما استند على قضايا جوهرية تعالج قهر الإنسان في مختلف مستوياته النفسية والسيكلوجية والبيلوجية والسياسية، وتبحث في علاقة التأزم المصيري الذي يلاحق البشر في مختلف مراحلهم العمرية ليعيشوا وهم أحياء أو يموتوا وهم أحياء مع إثبات صفة التواجد ضمن حياة مؤقته تتصارع فيها رغبات متفاوتة الأهمية أو مبرمجة حسب أهواء الأقوياء أو ممن يملكون خيوط اللعب على أوتار الحاجات الإنسانية الضرورية وليست الكمالية.
إذاً فالإبداع بظروفه الراهنة لا يمكن أن يتجلى لمرحلة الاحتفاء أو وصفه بأنه إبداع إذا ما تم تطبيق المدلولات المعنوية للفظة، لأننا لم نر شيئا جديداً وُجد من العدم، ولعلها صفة إلهية لا يمكن أن يرتقي إليها المخلوق، ولكن إذا اعتبرنا بأن الإبداع منفعة حديثة أو متجددة تنقل الإنسان من حالة ضعف إلى حالة قوة ومن جهل إلى علم، ومن العبودية إلى الحرية فلعلنا نجتهد ونقارب المعنى المراد طرحه في هذا المقال.
للمقاربة الواقعية حول ما يتم تناقله في الساحات الالكترونية تحت مسميات الإبداع والفن فإننا نتلّمس الهوة السحيقة التي تفصل بين حقيقة الإبداع وظل الهواجس التي عُليا شأنها بأنها ضروب الإبداع عن طريق “لوبيات” الرأي المتقوقعة على ذواتها والمحاباة التي قتلت المبدعين الأصليين لتظهر أفكار ممجوجة تعيش على وابل المساحيق الشكلية وتخفي مخاض الإبداع الذي يرهق الفكر قبل الجسد.
سؤال يلح في الظهور: لماذا لا توجد جودة في كثرة الأعمال والمشروعات التي تُلبس ثوب الحياة بعناوين منمّقة كثيرة؟ وبطبيعة الحال هو سؤال لا يعمم على كل شيء وإنما يطوي بين ثناياه ضعف المحتوى وانعدام الفائدة التي عطلت سمة الإبداع في عالم تشوبه شوائب الغدر والظلم وفساد في كوامن الأمور ومبتغياتها، فغُيّبت الثقافة الإبداعية ومدلولاتها بين إدعاءات الأنا ومفردات حب الذات.. وسُرّحت جماليات المنطق مع قطعان اللامنطق.. وخُلطت اللغة وحضارتها في مزيج الثمالة.. وتمادى النسّافون فنسفوا الخصوصية في حداثة البرزة.. واغتيلت السلوكيات على مقصلة الطغاة.. لتكون حالة الشعور بالإبداع تجنّي على فقه التغيير.
كيف تتشكل بيئة الإبداع في الفعل والفاعل والمفعول به كبنية متحدة؟ وما هي أطر الإبداع وملامحه؟ وكيف نفرق بين مبدع يبحث عن عمل يصبح واقعياً ومبتدع مدعي يهوى الميثولوجيا الشخصية؟
أيها (……) لدينا مبدعين فلا تتجاهلوهم.. ولدينا مقومات ثرية بعلومها فلا تقتلوها.. ولدينا خصوصية فلا تبيعوها لمصالحكم الذاتية.
هلال بن سالم الزيدي
كاتب وإعلامي .
abuzaidi2007@hotmail.com