في الغربة انهارت القريحة الشعرية للشاعر هشام الصقري لتنتج عملاً وطنياً رائعاً.. فيغرس الملحن ابراهيم المنذري فيه لمساته ويزيد من خفان الشوق.. ويحملني على حين غُرة لأزرع معهم شوقي وأنا بين سهول “عُمان”، ولعلي اختلف عن هشام بأنه يحتاج إلى غربة كي يقرض شعره، وأنا احتاج إلى تأمل في غربات الصقري ووطنية المنذري كي أزرع الوجود زهرة زهرة.. لتكون عُمان قِبلةوقُبلة.
كلما وجهت قلبي في مكان لست أهله.. هز نبضي من حقول الشوق فاسّاقط نخله
وتجلت لي عُمان في ضنى الغربة قبلة.. عطش يأكل عمري فاهطلي في العمر قبلة
عُمان القِبلة التي تجلّت للعالم فانسابت بحضارتها وأفقها فهطلت قُبلات النهضة في كل مكان.. وتوشح موقعها وموضعها عباءة التنمية التي انسابت نظماً وشعراً فكانت الغزل الذي جر الشعراء إليه قرائحهم ففاضت المعاني وتنوعت الصور الشعرية برموزها وشخوصها الجميلة .. ومع إطلالة الــ 23 يوليو/تموز المجيد في كل عام تتوافد إلى أذهاننا عظمة المنجز الذي فجّر ينابيع العلم والمعرفة وانطلقت “عُمان” بتاريخها التليد مواكبة مستجدات العالم وتطوراته في مختلف المجالات بحنكة القيادة الحكيمة لصاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
عندما نفتح كتب التاريخ تتناثر الكلمات والجمل والفقرات واصفة مجد تليد وتاريخ لا تتوقف إنجازاته، ليس للقراءة وإنما لأخذ العبرة منه وعليه كانت بداية البداية حكاية.. تسسلت في نسق الرواية.. شخوصها أفكار ومسار وبصر وبصيرة وانتماء ووطنية تحمل على عاتقها فصول القصة في حبكتها الممتدة في أفق الإنجاز فالبناء والنماء وطن يتنفس الحب والتكامل بين ترابه الساكن بين الحاء والباء.. وفي جوانبه لمسات تعانق حب العطاء.. هي الحكاية التي ارتوت من ذلك الامتداد.. فتناثرت أفكارها حلمًا يعانق الحقيقة.. وواقعًا يتجسّد في شموخ وكبرياء.
الزمان عميق ومتجذر يأخذ من كل حقبة أنوارها ومن كل شبر سموها ومن كل تبر أنقاها وأخلصها، ليكون فجر النهضة وحتى اللحظة إحدى العلامات التي يقف عندها الراوي، أما المكان فهو كيان ممتد جغرافيا من مسندم شمالاً وحتى ظفار جنوبًا.. “عُمان” هي القصة والحكاية والرواية التي تكاملت في نسقها الحضارة بواقعيّة مكتنزة بالحب والوفاء والإخلاص.. فعشقناها حتى تحركت في عروقنا.. لذا كان من الواجب أن يقدس ثراها وتزرع في جنباتها بذور النزاهة لتكون سداً منيعاً وحصناً حصيناً ضد تدخل خارجي أو غدرٍ داخلي.
في بلادي “عُمان” ثمة إثبات على إننا لم ولن نعيش في عزلة عن العالم، وإنما عزلنا أنفسنا عن الفتن، وبالتالي كان حرياً أن على كل فرد يعيش بين جنبات هذا الوطن الالتزام بهذه القاعدة التي مثلت قدسية المكان وطهر النفوس وقِبلة للعقول الباحثة عن سمو الإنسانية،وهذا الالتزام دافع بأن ينتبه البعض إلى تصرفاتهم وتعاملاتهم تجاه الوطن الذي احتضن غربتهم فأودع فيهم القُبل.
يا لإيقاع السواقي إن غوى قلبي دله .. يعزف المجد اخضراراً خالد يشبه حقله
“عُمان” بطبيعتها وسجيتها لا يمكن أن تتقمص شخصية غيرها أو تتبنى فكراً مستورداً، وإنما تتفرد بخصوصيتها التي لا يشبهها أو يتشبه عليها أحد، لأن عزف السواقي لا يشكل عزفاً سمعياً فقط، وإنما يجعلك تبحر في نظام مائي بهندسة معمارية توارثتها الأجيال لتكون محطة إنتاج لأفكار تتماشى مع عظمة تلك الإنجازات، لتتعالى سيمفونية المجد مخضرة خالدة، وهي دعوة للتفكر في تلك الثوابت التي لا زلنا ننهل ونستفيد منها، كما إنها نطاق آخر في ضرورة أن نضع شيئ للأجيال القادمة لتذكرنا به، وهنا علامة أخرى بأن الوطن للكل وليس للبعض.
كل حرف في عُمان غصن حب مد ظله .. فافتحو صدري ففيه جبل يحضن سهله
بهذا الجمال؛ لا يمكن أن تمر الأجيال دون أن تترك بصمة تُقرأ أو علامة يُستدل بها على رقي الحضارة لأننا نؤمن بأن الجينات الوراثية تغرس ذواتها في هذا الوطن ليس لنيل مصلحة وإنما لأداء واجبات للوصول إلى المجد المتجسد بين البصر والبصيرة في جسد هذا التكوين الممتد بين العين والنون.. والقاف والسين كجسد واحد يتآلف فيه النبض بحب ووئام.. لتتباهى المنجزات بذلك القبس الذي أسس الدولة العصرية .. دولة القانون والمؤسسات لتخوض غمار الوجود في أبهى حلة.. فالمكان هو عمان بما تحمله الكلمة من معان وإتقان .. والحدث هو الــ 23 من يوليو / تموز المجيد ففيه أماطت عُمان اللثام وكبّرت حتى حازت المكرمات..
.. نعم عندما تتجلى “عُمان” فهي الغصن الوارف حباً؛ وهي النبع الذي لا يتوقف، وبالتالي علينا أن نتحسس خطواتنا عندما نريد أن نجني ثمار الحياة بإنجازاتها.. وعلينا أن نتحسس صدورنا تجاه الوطن ونتحسس حاجة الجبل قبل السهل.. لأنها عُمان.. كل عام أنتم بخير.