الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
تنتابني بين الفينة والأخرى حالة من الحزن والكآبة ، وأكاد أهمّ بمغادرة هذه المساحة الزرقاء – غير مكترث بما يسببه ذلك من قمع لذاتي التي اعتادت واستأنست لهذه المساحة – عندما أجد أنّ البعض يفتقر إلى أبسط المتعارف عليه في ثقافة الاختلاف ولغة الحوار وتقبّلِ الرأي الآخر ، فبدلاً من أن يكون الاختلاف وسيلة لتلاقح وتواصل الأفكار والرؤى ، وسبيلاً رحباً للإثراء وتبادل المعارف والخبرات والأراء ، نجد أنه يؤدي إلى حالة من التخندق والتموضع المزري ، الأمر الذي يدفع كل فريق إلى إشهار كل أنواع أسلحته الفتاكة ، وذخائره المسمومة من السب والشتم والذم والقدح والتخوين والإقصاء ؛ حتى وصل الأمر إلى اتهام بعضنا البعض بالكفر ، والعياذ بالله ، وهي أخطر أنواع الأسلحة الموجهة ، وهي لا تقلّ خطورة عن اتهامات التخوين في الوطنية وصدق الانتماء .
والاختلاف ليس حالة عارضة أو طارئة ؛ بل هي سُنة كونية قديمة ، متزامنة مع قِدم الإنسان ووجوده على هذه البسيطة . قال تعالى :” ولو شاء ربك لجعل الناسَ أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحِم ربك ولذلك خلقهم ” هود ١١٩،١١٨ .
والاختلاف حالة متقدمة من الرقيّ والتقدم والوعي والإحساس بالمسؤولية ، خصوصاً إذا آمنّا بضرورة وحتمية الاختلاف كثقافة حضارية وإنسانية ، يجب أن تترسخ وتتأصل في فكر المجتمع وقناعاته ، لذا فإنّ الاختلاف ليس مجرد ممارسة فوضوية وغوغائية القصد منها إحداث الصراخ والصدام مع الطرف الآخر ، إما للشهرة على قاعدة ” خالف تُعرف ” أو للاستفزاز وسبر ردّات الفعل ، أو لزرع نوع من الشكّ لدى عامة الناس في قضية من القضايا ، بهدف إحداث بلبلة أو حيرة في أوساط المجتمع .
ولا ينحصر الاختلاف في مجال محدد ، فقد يكون في بعض القضايا السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية ، أو حتى الأخلاقية .
اعتقد أنه قبل كل شيء علينا الإيمان بثقافة الاختلاف من منطلق حتمية وجوده في أي مجتمع ، ومن منطلق الحاجة إليه في كثير من الأحيان في القضايا المجتمعية ؛ للوصول إلى أفضل الأراء وأكثرها صواباً ، فالاختلاف شعور إيجابي لا يحمل نزعة سلبيّة أو إرادة نافذةً متسلطة ، أو تصميماً عدوانياً ، لكن بالتأكيد هذا ، لا يعني بالمطلق ، قبول الاختلاف أو مناقشته في موضوعات لا يتسع الاختلاف حولها كالمسلّمات الدينية أو النصوص القطعية ، كالفرائض في الدين الإسلامي وهي النطق بالشهادتين ، وإقامة الصلاة، وصوم شهر رمضان ، وإيتاء الزكاة ، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً ، كذلك لا يمكن أن نناقش من زاوية الاختلاف ما يُسمى بالمثلية والزواج بين المثليين ، فالمجتمع المسلم لا يقبل المحاججة في مثل هذه القضايا لأنها من المسلّمات التي لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالاعتقاد بها ، وكذلك بعض الثوابت الوطنية مثل المواطنة والولاء للوطن والحفاظ على وحدة ترابه .
كذلك علينا اختيار الزمان والمكان والظروف من أجل ثقافة الاختلاف ، وعلى سبيل المثال ؛ لا أعتقد أنّ هذه المساحة الزرقاء مكان مناسب لممارسته من خلال تغريدات محددة ، بعدد من الأحرف لا تفي بالغرض ولا تعطي الفكرة حقها .
إذا آمنّا بثقافة ديمقراطية الاختلاف ؛ فإنه يتوجب علينا علينا أن لا نقول الشيء ونعمل ضده . ” يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ” الصف ٣،٢
ذلك أن بعض الأشخاص يُصرحون ويتشدقون بأنهم يؤمنون بالاختلاف وبالحوار ، ولكن تجدهم حال تطبيقه ، لا يتركون مجالاً للاختلاف فيتحدثون بلغة الجزم والقطع واليقين ، وكأنهم أعرف العارفين بالموضوع ، بل وبكل المواضيع ، وبذلك هم يغلقون أمام الطرف الأخر باب إبداء الرأي المخالف ، فإذا أنصتوا فهم كما يقول أحد الكتّاب ” إن أعظم مشكل نواجهه ونحن نتواصل ، هو أننا لا ننصت لكي نفهم بل ننصت لكي نجيب ”
إنّ ثقافة الاختلاف تستلزم بالضرورة لغة حوار لينة ، وفكر رحب يستوعب فكر ورأي الآخر ، ليس به ذمّ أو سب أو قدح أو غلظة في ردّ القول أو الوصول إلى الإقصاء أو الإخراج من الملة ، وعلينا أن نتخذ من القرآن الكريم عظة وإسلوباً راقياً في إدارة الحوار فالله سبحانه وتعالى يقول في الآية ١٢٥ من سورة النحل : ( وجادلهم بالتي هي أحسن) حتى في مجال الدعوة إلى الإيمان بالله يأمر جلّ وعلا نبيه موسى وأخاه هارون عند ذهابهما لدعوة فرعون باللين حيث قال غزّ من قائل في الآية ٤٤ من سورة طه ( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) وقال أيضآ في الآية ٦٣ من سورة الفرقان ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) .
إنّ قبول الآخر المختلف معنا أمر مسلم به وضرورة لا محيد عنها ، فالوطن يتسع للجميع ، لا إقصاء فيه لأيٍّ كان، وعلى كلّ منّا أن يتحمل الآخر ويحترم رأيه ، كما يجب أن يكون الحوار متسماً بالموضوعية والعقلانية بعيداً عن الشطط والغلوّ .