الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
تعاني دول الخليج العربي على وجه العموم وسلطنة عمان على وجه الخصوص من مرض مزمن وخطير ، ألا وهي التجارة المستترة ، فمنذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الأن ، وبرغم الوسائل العلاجية المختلفة والمتعددة والقوانين الصادرة والتي تهدف إلى القضاء عليها ، أو على الأقل الحدَّ منها ، إلا أنها لم يكن لها أي أثر إيجابي ، بل على العكس من ذلك ، فقد تزايدت تداعياتها السلبية ، وأصبحت كأنها حالة ميؤوس منها ، لا يُرجى شفاؤها لا على المستوى القريب ولا على المستوى البعيد المنظور ، ولا يبدو أي ضوء أمل ولا نهاية لنفقها المظلم ، إلا أن تحدث معجزة من السماء .
ولا ندري أسباب ذلك الإخفاق لتلك القوانين أو التدخلات الحكومية ، وكأن هناك قوًى خفية متربحة من بقاء الحال على ما هو عليه ، وهي من النفوذ بحيث تظل حجر عثرة في تحقيق الأهداف المرجوة .
وممّا يُذكَر في هذا الشأن حرص السلطان قابوس طيّب الله ثراه واهتمامه بموضوع التجارة المستترة وتشديده على خطورتها ، خلال لقاءاته المباركة بمواطنيه في جولاته السنوية للمحافظات ، وممّا قاله :
“…… الأهم من ذلك كله ، وأقول بكل وضوح ، هو أن نبتعد عن التجارة المستترة ، فهي ليست في صالح أبنائنا وبناتنا ، ولا في صالح الكبار الذين يرون الاستفادة من الوافد نظير مال يسير يتقاضونه من الوافد ، وذلك فيه مضرّة بالاقتصاد الوطني تماماً ، ويجب أن نعي هذا الشأن ، ونعطيه كل الاهتمام لأن فيه خسارة لهذا البلد ”
(سيح الشامخات في ٢٠١٣/١/٢٧)
إن التجارة المستترة لا تحتاج إلى تعريف ، فهي جاثمة ونعيشها وكأنها جزء من حياتنا اليومية ، وهي كذلك بالفعل .
وإن كان لا بد من تعريف للتجارة المستترة ، ويسميها البعض تجارة الظل ، فهي تعني ببساطة شديدة : أنها تمكين شخص غير مواطن من ممارسة أعمال وأنشطة تجارية لحسابه وهو غير مرخص له بذلك ، وبصورة أكثر تفسيراً ، هي أنّ المواطن العماني يملك السجل التجاري ملكية صورية اسمية ، وتشعّ اللوحات الطويلة والعريضة بهذا الاسم ليلاً ونهاراً لكنه وللأسف الشديد فإنّ الوافد يملك رأس المال ويتحكم في شؤون المنشأه وقراراتها ويجني الأرباح ثمّ يرمي الفتات المتفق عليه أخر الشهر ، وهو في الغالب مبلغاً زهيداً لا يسمن ولا يغني من جوع .
والتجارة المستترة تعمقت جذورها في المجتمع العماني في كل أنواع اقتصادياته المهنية ، التجارية والزراعية والصناعية ، بشكل لا يسعنا إلا أن ندق ناقوس الخطر ، حتى لا يأتي يوم لا ينفع فيه الندم . لقد تعمق هذا المرض العضال (وأنا أعني ما أقول) كتعمّق شجرة المسكيت في الأرض وضخامة جذعها وانتشار أوراقها ، نعم هذا هو حال التجارة المستترة عندنا في عمان ، وإذا أردنا الحق ، فإننا شاركنا – دولة ومجتمع – بصورة أو بأخرى في وجود ونمو وتغلغل واستشراء هذا المرض ، بل واستمراره ؛ بحيث يستنزف الاقتصاد الوطني على مرآى ومسمع من الجميع ، بل إنّ البعض مشارك بشكل فجّ – بقصد أو بغير قصد – ومنغمس دون اكتراث للمأساة التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع والدولة .
لن أتحدث هنا عن الأعمال والمهن التي يتعفف عنها أبناء دول الخليج ، مثل محلات الحلاقة والخياطة والخدمة في المطاعم وغيرها ، لكنني أتحدث عن الأعمال والمهن الكبرى ، فلو نظرنا إلى قطاع المقاولات ، على سبيل المثال ، وهو قطاع عريض ومربح جداً نظراً للنمو العمراني الذي تشهده السلطنة بصورة متسارعة ، سنجد بأن الوافدين يسيطرون على معظم المنشآت العاملة فيه ، وهم الملّاك الفعليون لها ، وأما المواطن فهو المالك على الورق فقط من أجل الاستفادة من التسهيلات في المعاملات الحكومية المقدمة للمواطن والتي يتم تحويلها للوافدين بشكل مخزٍ ، وقس على هذا القطاعات الأخرى دون استثناء حتى المكاتب الهندسية والمحاسبية والمنشآت الطبية ومكاتب المحاماة ، ناهيك عن مكاتب الوساطة العقارية التي غزتها التجارة المستترة ونخرت فيها بطريقة فجة ومشينة .
إنّ هذا المرض العضال يترتب عليه أضرار كثيرة ، فهو من ناحية يغتال مبدأ المنافسة بين المواطنين الذين تفرغوا لإدارة أنشطتهم التجارية وبين الوافدين ، وما يلاقيه هؤلاء من تسهيلات من الموردين من حيث تزويدهم بكل احتياجاتهم أولاً بأول ودون تأخير ، أو من حيث تسهيلات دفع قيمة البضائع المشتراة لمدد تصل إلى أربعة أشهر فأكثر ، في الوقت الذي لا يحصل فيه المواطنون على مثل ذلك ، بل تمارس ضدهم كافة أساليب التضييق والخنق من قبل الموردين الوافدين ، لأنّ اللوبي المتوغل في كل القطاعات لا يريحه نجاح المواطنين العمانيين ، يضاف إلى ذلك عدم توفر الخبرة الكافية لدى بعض العمانيين المتفرغين لإدارة انشطتهم التجارية وخلطهم بين رأس المال العامل والعائد من هذه الأنشطة ، وكذلك حبنا المفرط الزائف – كمجتمع – للتعامل مع الوافدين دون المواطنين لأسباب نفسية غير حقيقية ، وكل ذلك يؤدي في النهاية إلى وضع المواطن المتفرغ في خانة عدم القدرة على منافسة الوافد ، وقد يتكبد نتيجة ذلك خسائر باهضة ، يضطر بسببها إلى إغلاق نشاطه الذي يعتمد عليه كمصدر لكسب رزقه وقوت عياله .
ومن الأضرار الأخرى للتجارة المستترة ، أنه يترتب عليها زيادة الباحثين عن عمل رغم محاولتهم الاعتماد على الذات ، إلا أن الأبواب قد أُوصدت أماهم ، وأن فرص الكسب المشروع قد سُرقت منهم من قبل أشخاص طبعت الأنانية والجشع على قلوبهم ، ويتم على مرآى ومسمع وعلم من مؤسسات الدولة الرسمية والمجتمع .
ومن الأضرار أيضاً ، فإن التجارة المستترة تنهش في الاقتصاد الوطني كما تقرض الجرذان كل ما يصادفها مما يمكن أن تقرضه وتخربه ؛ وذلك من خلال التحويلات المالية الكبيرة للوافدين حتى أصبحوا في بلدانهم من الأثرياء على حساب وطن يوجد فيه عدد كبير من الباحثين والمسرّحين من العمل ، جعلهم يرزحون تحت وطأة الديون والفقر والعوز وتحولوا إلى طاقات معطلة مهدرة لا يُستفاد منها .
وإذا أردنا المصارحة بشفافية وصدق ، فإنّ بعض المسؤولين والموظفين ساهموا – وخاصة في العقدَين الأخيرَين من القرن الماضي – في توسيع رقعة التجارة المستترة ، وكان هؤلاء يتصدرون هذا المشهد السلبي ، فحذا حذوهم نفر غير قليل من المواطنين ، رغم وجود القوانين والسياسات الحكومية التي تحاول القضاء أو على الأقل التخفيف من هذه الظاهرة ، لأسباب عدة ، لعلّ أهمها وابرزها ، تضارب المصالح الذي ابتليت به الإدارة في عمان خاصة وفي دول الخليج عامة.
ومع أنّ المرض عضالٌ ، إلا أنه يمكن إيجاد برنامج علاج مكثف له ، يبدأ بتشخيصه تشخيصاً علمياً دقيقاً يحدد أسبابه بوضوح ، ويكشف عن آثاره وأضراره دونما مواربة أو خجل أو ضيق أو خوف أو محاباة لفلان أو علان ، فكما هو معلوم أنّ التشخيص الصحيح يعتبر نصف العلاج ، بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة العلاج الفعال والصارم لاستئصال هذا المرض ، ويجب أن يشارك فيها الدولة بجميع مؤسساتها الرسمية ، بإصدار التشريعات اللازمة واتخاذ التدابير والإجراءات الناجعة ، ومتابعة تطبيقها على أرض الواقع تطبيقاً ناجزاً لا هوادة فيه ، ومحاسبة من يتورط في تلك المخالفات ، كما يلزم أن تواكب وسائل الإعلام المختلفة الرسمية والخاصة هذه الجهود بمهنية واحترافية عالية باعتبارها قضية وطنية . فتقام الندوات واللقاءات التعريفية والبرامج الخاصة التوضيحية وغيرها .
ويمكن هنا الاستفادة من تجارب بعض الدول التي رفعت وطبقت شعار لا للتجارة المستترة ، وعلى رأس هذه الدول المملكة العربية السعودية الشقيقة .
ولا بد من التأكيد هنا ، أن الجهود الرسمية لن تكون كافية ما لم تصاحبها إرادة ووعي مجتمعي بخطورة الظاهرة اقتصادياً واجتماعياً ، وعلى كل فرد من أفراد المجتمع الوقوف مع الدولة في الصفوف الأمامية ، وتغليب المصالح العليا للوطن والتخلي عن الأنانية والجشع الذي يعاني منه البعض ، فعمان تستحق منا حكومة وشعباً التضحية بكل ما نملك وما نستطيع ، وعلينا أن ندرك أننا كعمانيين أبقى وآكد نفعًا لبعضنا ، فالوافد حتماً سيرحل يوماً ما بعد أن يكون قد أثرى على حساب وطن وأمة .
ربما يغضب البعض من هذا المقال ويثير حفيظتهم ، لأنه يمس ما يعتبرونه مصالح أو حقوقاً لهم ، وهو منطقة يحظر الاقتراب منها ، وليس هذا إلا سراب ووهم ، فالمصالح الناتجة من التجارة المستترة يجنيها الوافد ، وليس للمواطن إلا الفتات والنزر اليسير من الربح . ويعلم الله اني ما كتبت هذا إلا بدافع المصلحة الوطنية بضمير صادق ونية خالصة وقلم اعتاد على قول الحقيقة مهما كانت مرة ومؤلمة ، وأن يتجرد من الأنانية وممالأة الباطل مهما كان مصدره .
هذا عهدي مع الله ومع الوطن ومع السلطان أطال الله في عمره ، ولن أحيد عن ذلك .