الصحوة – قصي بن سليم المسلمي
منذ بداية التاريخ، كانت اللغة العربية جزءًا لا يتجزأ من الحضارات التي ازدهرت على مر العصور في ربوع الوطن العربي. لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت الوعاء الذي حفظ إبداعات تلك الحضارات، وسجل منجزاتها في شتى الميادين، من الأدب والشعر إلى العلوم والفلسفة. لقد عبرت اللغة العربية بأمانة عن أفكار ومعارف تلك الأمم، وشكلت هويتها الثقافية والتاريخية. ومع ذلك، يواجه هذا الإرث اللغوي العظيم تحديات جمة في عصرنا الحالي، تهدد مكانته ودوره المحوري في تشكيل الوعي والهوية. فبعد أن كانت اللغة العربية مصدر فخر واعتزاز لكل ناطق بها، ورمزًا لوحدة الأمة وقوتها، نشهد اليوم تراجعًا ملحوظًا في استخدامها في مختلف جوانب الحياة، وإهمالًا لقيمتها الجمالية والثقافية، وكأنها أصبحت غريبة في ديارها. هذا التراجع يطرح تساؤلات ملحة حول الأسباب الكامنة وراء هذا التحول، وما الذي تغير في نظرة الأجيال العربية إلى لغتها الأم؟ وما هي العوامل التي ساهمت في هذا التدهور؟ يهدف هذا التحقيق إلى الغوص في أعماق هذه المشكلة، ودراسة وتحليل الأسباب الجذرية لتراجع استخدام اللغة العربية، وتقييم الآثار السلبية لهذا التراجع على الهوية الثقافية والاجتماعية للشعوب العربية، واقتراح حلول عملية وفعالة لتعزيز مكانة اللغة العربية في المجتمع، والحفاظ عليها كرمز للهوية والانتماء، وكيف يمكننا العمل جاهدين لإنقاذ لغتنا الأم من خطر التهميش والاندثار، وضمان استمرارها كلغة حية نابضة بالحياة للأجيال القادمة.
أسباب تراجع مكانة اللغة العربية
في مقابلة سابقة للأستاذ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي، أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس يقول: “تواجه اللغة العربية اليوم تراجعًا ملحوظًا، وانخفاضًا في مكانتها، ويعزى ذلك إلى ضعف الاهتمام بها من جانب المتحدثين بها. وأن المشكلة لا تكمن في اللغة العربية ذاتها، بل في تضاؤل إدراك أهميتها لدى شرائح واسعة من المجتمع، وكذلك في ضعف ممارستها في سياقات الحياة اليومية. إذ يدعي بعضهم أن اللغة العربية لم تعد ذات جدوى في مجالات العمل والحياة المعاصرة. وقد أسهم هذا التوجه السلبي في إضعاف حضور اللغة العربية في مختلف جوانب حياتنا، سواء على المستوى العام أو داخل نطاق الأسرة.”
ويقول د. فايز صبحي عبد السلام تركي، أستاذ النحو والصرف والعروض المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس: يمكن الإشارة إلى أنَّ اللغة العربية قويةٌ في ذاتها، أي أنَّ هذه القوة نابعةٌ من خصائصها، وأن الضعف يرجع في مجمله إلى عبث مُستخدم اللغة بها؛ ومن ثَمَّ يمكن الإشارة إلى بعض الأسباب، على النَّحو الآتي:
أولاً، قد يرجع ضعف اللغة العربية إلى انتشار العامية في المجتمعات العربية، وعدم مجاهدة الناس أنفسهم مُستخدمين الفصحى في كلِّ مكان، وهو ما ينعكس على المدارس حيث ثنائية اللُّغة بين كلٍّ من المدرسة والبيت والشارع، وذلك يرجع أيضًا إلى نظرة الاستغراب من المجتمع تجاه من يتحدث العربية الفصحى. من الممكن أيضًا أن يرجع ذلك إلى وجود من يغفل عن قيمة اللغة العربية، وأنها تنحصر في كونها منهجًا دراسيًّا أو مُقرَّرًا دراسيًّا، من خلاله يتطلع الطالب إلى النَّجاح، لا إلى تكوين مهارة لديه. وأيضًا قد يرجع ذلك إلى غفلة الناس وبعض مدرسي اللغة العربية عن كونٍ العربية هويةً للعربي، من خلالها يتعرف على الفكر العربيّ والثقافة العربية. وكذلك إلى استمراء أبنائها الخطأ، وعدم تقويم المخطئ أو الرد عليه أو غير ذلك من وسائل التصويب لكل خطأ حولنا. وقد يرجع ذلك أيضًا إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا، تلك الوسائل التي تترخص، ولا تبالي بالخطأ، وهو ما ترتب عليه عدم تقويم الألسن بالرجوع إلى المصادر التراثية والنهل من معينها الصافي.
ويضيف أ. يونس بن جمعة المسلمي، مُعلم لغة عربية بمدرسة الحواري بن محمد الأزدي بولاية المضيبي بقوله: “أسباب ضعف اللغة العربية عند الطلاب اليوم متعددة، لكن أهمها هي: أولاً، قلة التحدث باللغة العربية الفصحى في المنزل والمجتمع. فالعديد من الأسر تتحدث باللهجات العامية أو اللغات الأجنبية، مما يؤثر على قدرة الأطفال على التعبير وفهم اللغة العربية بشكل صحيح. ثانياً، ضعف المناهج الدراسية في تدريس اللغة العربية. فبعض المناهج لا تشجع على القراءة والكتابة الإبداعية، وتعتمد على الحفظ والتلقين بدلاً من الفهم والتطبيق. ثالثاً، تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. فالعديد من الأطفال يقضون وقتاً طويلاً على الإنترنت، ويتعرضون للغات الأجنبية والعبارات العامية التي تؤثر على لغتهم العربية. رابعاً، قلة الاهتمام بالقراءة. فالقراءة تساعد على توسيع المفردات وتحسين مهارات الكتابة والتعبير، ولكن للأسف، العديد من الأطفال لا يقرأون بما فيه الكفاية. أخيرًا، عدم وجود بيئة لغوية محفزة. فالأطفال يحتاجون إلى بيئة تشجعهم على التحدث والكتابة باللغة العربية، مثل المشاركة في مسابقات وأنشطة ثقافية.
وتضيف أيضًا منار بنت ناصر الهنائية، طالبة بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس بقولها: “أرى بأن ضعف الارتباط بالتراث والثقافة العربية من أهم أسباب ضعف اللغة العربية في يومنا هذا، فمع زيادة الاهتمام بالمظاهر الحديثة أصبح الناس يقللون من قيمة الجذور العربية، فيرون بأن التراث العربي قديم وغير مواكب للتطور الحاصل في حياتنا، كما أن اللغة العربية لا تستخدم بفاعلية في مجالات التكنولوجيا والعلوم الحديثة، بينما نجد في الجانب الآخر الاعتماد الكبير على اللغات الأجنبية (الإنجليزية خاصّة) في هذه المجالات. كما أؤمن بالدور الكبير للأسرة في تعزيز اللغة العربية لدى الأطفال، لكننا وللأسف الشديد نلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة التعامل والحديث مع الأطفال باللغة الإنجليزية بحجة أنها مستقبلية، ونتيجةً لذلك تقلّ قيمة اللغة العربية في نظرهم.”
عبدالله بن خلفان البراشدي، طالب بكلية العلوم بجامعة السلطان قابوس، محب ومهتم باللغة العربية يقول: “من وجهة نظري أن سبب ضعف اللغة العربية يرجع في بداية إلى المجتمع الدولي كونه لا يعترف بها كلغة رسمية، وإنما يلزم باقي الدول باتباع اللغات الرسمية كالإنجليزيّة وغيرها. ثانياً، يرجع إلى المجتمع المحلي بالتقليل من استخدامها واعتبارها ضرباً من القدم، وأن التطور هو التحدّث باللغات الأخرى. وكذلك أغلب المتعلمين لا يتقنون اللغة العربية ولا يفقهون معانيها فيعتبرونها صعبة أو أنها لا تواكب التطوّر.
إحياء مكانة اللغة العربية
وفي محاضرة سابقة لسماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان يقول: “اللغة العربية وعاء القرآن الكريم، ورباط بين الناطقين بها، والعناية بها دينٌ في رقاب الأمة جميعًا”؛ ولحفظ اللغة العربية وإعادتها إلى مكانتها يرى د. فايز: أن إعادة مكانة اللغة العربية لن تكون إلا بتضافر الجهود؛ لتفادي ما تقدم ذِكره من أسباب، وهنا أُشير إلى الأثر الفعال للقرار الحكومي في تنفيذ ذلك، وهو ما سينعكس على كون العربية الفصحى سليقة لدى الناس بمرور الوقت ومحاولة التَّصويب والتحدث بها وعدم استغرابها من متحدِّثيها، وذلك لا ينفصل عن المدرسة والجامعة، حيث الأخذ بنتائج الأبحاث والدِّراسات وتوصياتها في هذا المجال.
وتقول الهنائية: “إن إعادة مكانة اللغة العربية اليوم تتطلب منّا جهودًا متكاملة من جميع الجهات: الأسرة، والمدرسة، والإعلام، والتكنولوجيا، والمجتمع بشكل عام، لذلك فإن علينا توعية الشباب بأهمية اللغة العربية كونها جزءًا من هويتهم وتاريخهم، كما يتظافر مع دور الإعلام في إنتاج البرامج التي تُظهِر جمال اللغة العربية بما يواكب العصر، كما يأتي دور الأسرة في المقام الأول لكونها الأساس في تشكيل حب اللغة لدى الأطفال، فيكتسب اللغة من بيئته، ويمكن للأسرة أن تعزز حب اللغة فيهم من خلال قراءة القصص باللغة العربية الفصحى، وتشجيعهم على الانضمام في أنشطة الكتابة الإبداعية وإلقاء الشعر.”
ويضيف البراشدي: يمكن أن نعيد مكانة اللغة العربية اليوم من خلال التأسيس المتين لها منذ الصّغر واستكمال التعرّف عليها وسبر أغوارها واكتشاف معانيها، والبحث في مواطن قوّتها والاقتداء بالسالفين من منتسبيها. ورفع قيمتها في المجتمع والاعتزاز بها في المناسبات.
مستقبل اللغة
وعن مستقبل اللغة العربية تقول الهنائية: “أرى بأن مستقبل اللغة يعتمد على الجهود التي نبذلها جميعًا اليوم، لأن اللغة العربية تواجه تحديات كبيرة، لكنها أيضًا تحمل إمكانيات قوية للبقاء والازدهار، فمن عوامل القوة التي تدفع اللغة العربية للبقاء والازدهار هو وجود القرآن الكريم الذي حفظه الله إلى يوم القيامة والذي نزل بلغتنا العربية، فللغة العربية مكانة كبيرة لدى المسلمين خاصة كونها لغة القرآن وهذا ما يمنحها استمرارية للبقاء. كما أن التراث الأدبي العربي يجعل من اللغة العربية مصدرًا للاعتزاز والافتخار. لكن في الجانب الآخر نجد بعض التحديات التي تهدد اندثار اللغة كهيمنة الثقافات الأجنبية الأخرى كالإنجليزية والفرنسية التي تسيطر على المجالات العلمية في وقتنا الحاضر، بالإضافة إلى التقليل من شأن اللغة العربية وقلّة استخدامها في الحياة اليومية وهو ما أدى إلى ضعفها الذي أفقدنا هويتنا الثقافية. ففي الختام، أؤمن بأن اللغة العربية خالدة ولن تندثر ولكنها قد تتراجع إذا لم نبذل جهودًا حقيقية لاستعادتها وتطويرها.”
كما يرى أحمد بن سالم الصوافي طالب متفوق بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس: أن مستقبل اللغة العربية يتوقف بشكل كبير على جهودنا الجماعية للحفاظ عليها وتطويرها. بالرغم من التحديات التي تواجهها، إلا أن هناك أسبابًا للأمل. اللغة العربية هي لغة حضارة عريقة، وهي مرتبطة بهويتنا العربية والإسلامية. ومن خلال التعليم الجيد، وتشجيع القراءة والكتابة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، يمكننا أن نحافظ على لغتنا ونجعلها لغة العصر.
ومع ذلك، يجب علينا أن نكون واقعيين. التحديات كبيرة، وتتطلب منا جميعًا العمل الجاد والمتواصل. يجب علينا أن نبدأ من أنفسنا، وأن نشجع أبنائنا على تعلم اللغة العربية وحبها. كما يجب على الحكومات والمؤسسات التعليمية والثقافية أن تلعب دورًا فعالًا في دعم اللغة العربية وتوفير البيئة المناسبة لتعلمها.
في النهاية، مستقبل اللغة العربية بين أيدينا. فإذا عملنا جميعًا معًا، يمكننا أن نحافظ على لغتنا ونجعلها لغة حية وديناميكية تواكب التطورات الحاصلة في العالم.
ختامًا، يتبين من خلال هذا التحقيق المعمق أن اللغة العربية، تلك اللغة التي حملت على مر العصور مشاعل الحضارة والمعرفة، تواجه اليوم مفترق طرق حاسمًا. فبين مطرقة التحديات الراهنة وسندان الطموحات المستقبلية، يتأرجح مصير هذه اللغة العريقة، مرهونًا بمدى وعي أبنائها بمسؤولياتهم تجاهها، وبحجم الجهود المبذولة لصونها واستعادة مكانتها اللائقة.
لقد كشف التحقيق عن جملة من العوامل المتداخلة التي أسهمت في تراجع استخدام اللغة العربية في مختلف جوانب الحياة، بدءًا من هيمنة اللهجات العامية وتأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مرورًا بضعف المناهج التعليمية وقلة الاهتمام بالقراءة، وصولًا إلى النظرة السلبية التي يتبناها البعض تجاه اللغة العربية، باعتبارها لغة قديمة لا تواكب متطلبات العصر. هذه العوامل مجتمعة شكلت بيئة حاضنة لتهميش اللغة العربية وإضعاف حضورها في الخطاب العام والمجالات الحيوية كالتكنولوجيا والعلوم الحديثة.
إلا أن هذا التحقيق لم يقتصر على رصد مظاهر التراجع وأسبابه، بل سعى أيضًا إلى استشراف آفاق المستقبل وتقديم رؤى عملية لإحياء مكانة اللغة العربية. وقد أكد المشاركون في هذا التحقيق على أن قوة اللغة العربية كامنة في خصائصها الذاتية، وفي ارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم والتراث الأدبي الزاخر. وأن الحل يكمن في تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من أفراد وأسر ومؤسسات تعليمية وإعلامية وثقافية، من أجل إعادة الاعتبار للغة العربية وتعزيز استخدامها في مختلف السياقات.
فالأسرة، باعتبارها النواة الأولى في المجتمع، تقع عليها مسؤولية غرس حب اللغة العربية في نفوس الأبناء منذ الصغر، من خلال التحدث بها في المنزل وتشجيعهم على قراءة الكتب العربية. أما المؤسسات التعليمية، فيُناط بها تطوير المناهج الدراسية وتقديمها بطرق شيقة وجذابة، تُحفز الطلاب على تعلم اللغة العربية بفهم واستيعاب، لا بالتلقين والحفظ. كما أن وسائل الإعلام مطالبة بتقديم محتوى عربي هادف وجذاب، يُبرز جمال اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن مختلف المواضيع بأسلوب عصري ومبتكر.
ولا يمكن إغفال دور التكنولوجيا في خدمة اللغة العربية، من خلال تطوير تطبيقات وبرامج تعليمية تفاعلية، تُسهل تعلم اللغة العربية وتُشجع على استخدامها في الفضاء الرقمي. كما يجب الاهتمام بترجمة المحتوى العلمي والتكنولوجي إلى اللغة العربية، لتمكين الأجيال العربية من مواكبة التطورات الحديثة بلغتها الأم.
إن مستقبل اللغة العربية ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتاج للجهود التي نبذلها اليوم. فإذا أدركنا أهمية هذه اللغة كرمز لهويتنا وثقافتنا، وبذلنا جهودًا حثيثة لتعزيز مكانتها، فإننا سنضمن لها البقاء والازدهار، ونجعلها لغة حية نابضة بالحياة، تُواصل إلهام الأجيال القادمة وتُثري الحضارة الإنسانية. أما إذا تقاعسنا عن أداء واجبنا تجاهها، فإننا نخاطر بفقدان جزء لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا، ونُعرض لغتنا الأم لخطر التهميش والاندثار.
لذا، فإن المسؤولية تقع على عاتقنا جميعًا، أفرادًا ومؤسسات، للعمل بجد وإخلاص من أجل إنقاذ لغتنا الأم واستعادة مكانتها اللائقة. فمستقبل اللغة العربية بين أيدينا، فلنجعله مستقبلًا مشرقًا يليق بعراقة هذه اللغة وعظمة تاريخها.