الصحوة – سليمة بنت عبدالله المشرفية
عاش أجدادنا حياة غير مستقرة فكانت جميع الأرض لهم سكنا واتسمت حياتهم بكثرة الأسفار والتنقلات التي تبدأ ولا تنتهي ولا يعرفون من متاع الدنيا سوى ما كان من ضرورةٍ على ظهور إبلهم، يقطعون المعمورة ذهابا وإيابا بحثا عن ماء وكلأ لقطعان مواشيهم وتوطنت أنفسهم على حياة المغامرة وتعودوا على مجابهة الأخطار والظروف المعيشية الصعبة فكانت في كل بقعة لهم ذكرى وفي كل ناحية لهم أثر يعيش في وجدانهم وكانت صدورهم واسعة سعة الأرض والسماء صبرا وأناة وتحملا
ثم جاءت حياة الاستقرار ليعيش الآباء حياة خبروا فيها بيوتا مستقرة وحارات تعايشوا فيها مع جيرانهم فكانت جميع الحارة لهم موطنا في تواصل غير منقطع، يفطرون هنا ويتغدون هناك دون أدنى حرج ،ولا يقيم جار عن جاره وليمة إلا ويكون لجاره منها النصيب الأوفر بل لا يستسيغ لحما دون جاره ولو نشأ خلافا بين شخصين منهما فإنه ينتهي مع أول لقاء بينهما مشرِّعين صدورهم أمام بعضهم فسيحة رحبة ثم تغير الحال وجاءت التكنولوجيا وانشغل الناس بأجهزتها في حيّز بيوتهم فلا يكاد ترى في حارة إنسان منها تسأله عن حاجة ما!!
الجميع في بيوتهم صامدون على شاشات التلفاز متنقلين بين القنوات الفضائية لتصبح (وحدها) محلا لذكرياتهم ودليلهم إلى ماضيهم يغتاظون إن تأخر مسلسلهم المفضل عن موعده قليلا ،متضجرين إن حصل تشويش في البث لقنواتهم الأثيرة!
والآن بعد كل هذه التجزئة لمساحة الذكريات في قلوب الناس جاء الانترنت ليقلب حياتهم رأسا على عقب وتتحول من حياة واقعية ملموسة إلى حياة افتراضية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي يفرغ فيها الشخص كل شحناته الايجابية والسلبية في أشخاص لا يعرفهم ولا يعرفونه ، لا تتجاوز ذكرياته الوجدانية مساحة هاتفه النقال وأصبحت بديلا له لمشاركة مشاعره الآخرين عن الواقع بل مهربه من الواقع
،ولا يكاد يتسع مزاجه أمام انقطاع إنترنت أو إصابة برنامج لديه بمشكلة تكنولوجية
وأحدنا لا يعلم ما يمكن أن تنتجه التكنولوجيا المعاصرة من أجهزة تقلص التواصل الواقعي بين الناس وتودعهم في عزلة نفسية مع من حولهم تتجزأ فيها الذاكرة الوجدانية إلى مساحاتٍ جديدة لم تعهدها.