الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
أنجبت عمان العظيمة في الثامن عشر من نوفمبر ١٩٤٠م ، أعز الرجال وأنقاهم ، وهل للعظيمة أن تلد إلا عظيمًا، هذا المولود العظيم أسماه أباه السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله قابوسًا، واسم قابوس مشتق من القبس وهو النور ويعني صاحب الوجه الجميل الطاهر النجيب الأصيل اللطيف المؤيد بتأييد رباني، وادخرته المشيئة الإلهية لعمان ، ليعيش في كنف أبيه، ورعاية وحنان السيدة الجليلة أمه، تربى تربية الملوك في هذا الكنف الطاهر، وهيّأ له أبوه عددًا من علماء الفقه والأدب واللغة والشريعة العمانيين، ليتلقى على أيديهم تعليمه في تلك الفنون داخل السلطنة، ثمّ بعثه والده إلى بريطانيا، وهناك التحق بكلية سانت هيرست العسكرية، كما درس في علم الإدارة المحلية، والتحق باحدى الكتائب البريطانية العسكرية العاملة في ألمانيا ، وقام بجولة حول العالم، حتى عاد إلى أرض الوطن، وقد اكتسب من الخبرات المختلفة في إدارة الحكم والسياسة، وظل يراقب بلده عمان وما يعانيه شعبها من ظلم ووجع واضطهاد مقارناً ذلك بما وصلت إليه شعوب العالم التي زارها ودرس فيها، من تقدم وتطور علمي وتكنولوجي، ورغد عيش وحقوق المواطنين وحرياتهم.
تنفّس صبح يوم الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠م حاملاً في اشعته بشائر السعد والفرح والسعادة ، ليصحو العمانيون على يوم استثنائي بكل المقاييس وبكل الموازين وبكل لغات العالم، فقد أشرقت شمس جديدة على عمان، وانطلقت نهضة مباركة قادها وأسس لها وتولى زمام أمرها جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور رحمه الله رحمة لا منتهى لها وانزله منزلة الصديقين والصالحين والشهداء وجزاه الله عن شعبه خير الجزاء .
كان همّ جلالته منذ الوهلة الأولى، خدمة شعبه وإسعادهم وتخليصهم من الجهل والفقر والمرض وسائر المعاناة الأخرى، وهذا ما عبّر عنه في بيانه التاريخي الأول بعد توليه مقاليد الحكم، حين قال ( شعبي العزيز .. أتحدث إليكم كسلطان مسقط وعمان بعد أن خلفت والدي يوم ١٨ جمادى الأولى ١٣٨٠ه الموافق ٢٣ يوليو ١٩٧٠م . كنت الاحظ بخوف متزايد وسخط شديد، عجز والدي عن تولي زمام الأمور .. إنّ عائلتي وقواتي المسلحة، قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص .. وإنّ السلطان السابق قد غادر السلطنة، وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي، أن أبدأ بأسرع ما يمكن، أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها .. أيها الشعب العزيز .. سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل … ) .
ورغم أني قرأت هذا البيان التاريخي مرات عدة، لكن وبكل أمانة استوقفتني هذه المرة عبارة ” وإني اعدكم أول ما أفرضه على نفسي … ” يا الله كم لهذه العبارة من معنى سامٍ شكلاً وموضوعاَ قيلت قبل تسع وأربعين سنة في ظروف مختلفة، وإذا بك أنت أيها الحيّ في قلوبنا فرضت على أنفسك، فماذا أبقيت لنا لنقوله بعد ذلك؟! .
كان يوم الثالث والعشرين من يوليو علامة فارقة في التاريخ العماني المعاصر، ونقلة حضارية شاملة للشعب العماني الأصيل الذي غمرته الفرحة بهذا الصبح للعهد الجديد، من صلالة إلى مسندم ومن مسقط إلى البريمي ، واستعدت مسقط لاستقبال جلالته وتزينت شوارعها وبيوتها بأعلام السلطنة، وفي اليوم الثلاثين من يوليو خرجت جماهير غفيرة من مسقط ومطرح والمناطق المجاورة لهما إلى مطار بيت الفلج المتواضع، وعندما نزل جلالته رحمه الله من الطائرة، هتفت الجماهير له بالترحيب والتأييد والولاء، وكأنّ عهداً ضمنياً صدر في ذلك اليوم بين القائد والشعب، تعهد فيه القائد بالعمل من أجل عمان وشعبها، فيما تعهّد الشعب بالسمع والطاعة لجلالته، والسير خلفه مشمّرين عن ساعد الجدّ والاجتهاد، لتعويض ما فات.
بدأت حركة ميكنة البناء في العمل، وفي خضم هذه الحركة حرص المغفور له على زيارة ولايات عمان كلها، في ظروف بالغة الصعوبة؛ طرق وعرة، وصحاري لا معالم فيها، أجواء وطقس يتمرد بين منطقة عن أخرى، تلفح وجهه شمس عمان الحارقة، تلسع جسمه برودة أجوائها، لم يتضجر أو يملّ كان يجلس مع الأهالي في ولاياتهم وقراهم تحت ظل شجرة على حصيرة متهالكة، يتبادل معهم الأحاديث ، يسأل عن احوالهم ومتطلباتهم ثم يتناول معهم القهوة العمانية فيودعهم لينتقل إلى ولاية أو قرية أخرى، على قمة جبل أو سفح وادٍ .
بهذا التواضع والعفوية والبساطة والتضحية وبكل معاني الحب ، دخل القابوس إلى أعماق أعماق قلوب العمانيين فأحبهم وأحبوه وأخلص لهم فاطاعوه، واقترب منهم فعظموه، وأظن جازماَ، لو أننا شققنا عن قلب كل عماني وعمانية لوجدنا صورة واسم جلالته محفورة فيها، طيّب الله ثراك ورزقك جنة الفردوس الأعلى، اللهم آمين.