الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
الحِيادُ في اللغة عدم الميل إلى أي طرف من أطراف الخصومة، والحياد الإيجابي مذهب سياسي يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسية من الكتل المتصارعة في الميدان السياسي. وتعتبر سياسة الحِياد عامل مهم ورئيس لتوفير الظروف، وبناء منبر للمفاوضات السلمية والوساطة والمساعي الحميدة، ومن هنا فإنّ هيئة الأمم المتحدة اتخذت قراراَ في عام ٢٠١٧م، ليكون ١٢ ديسمبر من كل عام يوماَ دولياً للحياد .
ومما لا شكّ فيه، أنّ الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير من مفترضات وحيثيات ومقومات السلام، وفي زمن الاصطفافات الحادة والتموضعات الضيقة والتمذهبات الدينية والطائفية والسياسية في منطقة مشتعلة بالتوترات والحروب الطاحنة، استطاعت سلطنة عمان، وبحكمة جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، طيّب الله ثراه، أن ينآى بعمان عن سياسة المحاور والتزام مبدأ الحياد الإيجابي، وعدم التدخل في شؤون الغير، وهذا الموقف الإنساني والأخلاقي، ربما أزعج البعض، إزعاجاً جعلهم يحاولون النّيل من سمعة عمان، بتلفيق الاتهامات ونشر الأكاذيب، وسخّروا من أجل ذلك أموالاً طائلة تمّ إنفاقها في استئجار وسائل إعلام، وكتّاب مرتزقة، ناهيك عن استخدام الذباب الإلكتروني العفن، ولكن عمان بحكمتها وسياستها الثابتة كجلمود الصخر لا تهزه العواصف مهما كانت شدتها، فتكسرت رماح الحقد والكيد على صخرة الوحدة التي تجمع الشعب بالحكومة، فارتدت في نحورهم، وتمّ الكشف عن ضلالاتهم وتزويرهم .
والمواقف العمانية الدالة على رسوخ وثبات هذا المبدأ كثيرة، لا يمكن أن يضمها مقال واحد، لكن سنتخير بعض الأحداث التاريخية المهمة : –
١- في عام ١٩٧٨م، وقّعت مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، اتفاقية سلام مع إسرائيل برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أطلق عليها اتفاقية كامب ديفيد، تقضي باستعادة مصر لأراضيها المحتلة من قبل اسرائيل مقابل سلام دائم وعلاقات دبلوماسية بين الجانبين، وقد أثارت هذه الاتفاقية حفيظة معظم الدول العربية، فتنادى القادة إلى قمة عقدت في بغداد، انتهت بقرار اتخذته هذه الدول بمقاطعة مصر سياسياً، وسحب السفراء وطردها من الجامعة العربية، ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس وتعيين التونسي الشاذلي القليبي أميناً عاما لها .
كان الموقف العماني من هذه المسألة مغايراً للموقف العربي، إذ اعتبرت سلطنة عمان توقيع الاتفاقية شأناَ داخلياَ يخص مصر وحدها وهي التي تقرره وفقاً لمصالحها، وعلى ذلك لم تقطع علاقتها مع مصر، بل ظلّت الدبلوماسية العمانية جسراً للتقريب بين الدول المقاطعة ومصر، حتى أعادت جميعها علاقاتها، وعادت الجامعة إلى القاهرة، وثبت صواب الموقف العماني .
٢- وفي الحرب الإيرانية العراقية – ١٩٨٠ – ١٩٨٨م – والتي سميت فيما بعد بحرب الخليج الأولى، وعلى مدار ثمان سنوات بين كرّ وفرّ ، اصطفت عدد من الدول العربية، إما علناً أو سراً مع العراق وأمدتها بمئات المليارات من الدولارات والمستشارين والخبراء العسكريين، أما سلطنة عمان فقد اتخذت موقفاً حيادياَ وابقت على قنوات اتصال مع الطرفين ، ممّا سهل لها لعب دور الوسيط النزيه والتخفيف من حدة التوتر بالتوازي مع الجهود الدولية، وصولاً إلى قبول وقف الحرب وخيار الحوار .
٣- كان اليمن السعيد سعيداً ولكنه منذ ٢٠١١م لم يعد كذلك، فمع اندلاع الاحتجاجات وتخندق الأطراف المختلفة كل في خندقه لا يتزحزح عنه ، فهناك المعارضة المدعومة من الخارج، والنظام المدعوم أيضآ من الخارج ، ليشكل الطرفان عبئًا على الكيان اليمني، فانقلب حال اليمن رأساً على عقب، وتغيرت التحالفات وأصبح أعداء الأمس أصدقاء، والاصدقاء أعداء، وتحالفت كلٌ من السعودية والامارات وقطر والكويت وبعض الدول الأخرى لشن حرب على اليمن عام ٢٠١٥م، حرب أطلق عليها عاصفة الحزم، قيل أنها تهدف إلى دعم الشرعية، وفي الجانب الأخر، إيران وحزب الله اللبناني، إلى جانب الحوثيين الذين يحكمون قبضتهم على العاصمة صنعاء، ثمّ ما لبث أن ظهر المجلس الانتقالي الجنوبي كطرف أخر في هذه الحرب التي قتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين والعسكرين وشرد وهجر الملايين من الشعب اليمني، الذين وجدوا أنفسهم في بلدهم بدون مأوى، ذلك أنّ اليمن عاشت ولازالت تعيش حرباً جهنمية مجنونة عبثية ، نعرف متى وكيف بدأت، ولكن لا يُمكن التنبّؤ متى ستنتهي .
نأت سلطنة عمان منذ الوهلة الأولى بنفسها، واتخذت موقفاً حيادياً ينسجم مع مواقفها الثابتة، هذا أولاَ ، ثم أنّ للدولة العمانية، بالإضافة إلى ذلك، مبرراتها الحقيقية، فاليمن جارة عربية إسلامية شقيقة، وبين شعبَي عمان واليمن مصاهرة ونسب وحقوق الجوار والدين والأخوّة .
عمان،. علاوة على نأيها بنفسها عن هذه الحرب التي لا مبرر لها، فقد استقبلت الجرحى والحالات الإنسانية والمشردين، كما هيأت المناخ اللازم للأطراف اليمنية للحوار في مسقط.
٤- نذكر مؤخراً الحصار على دولة قطر الشقيقة، وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي، عندما قررت كل من السعودية والبحرين والإمارات، بالإضافة إلى مصر ، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر، وفرض حصار جوي وبحري وبري عليها، في أزمة غير واضحة الأسباب الحقيقية التي تكمن وراءها، وكما هي الحكمة العمانية وقفت على الحياد من هذه الأزمة، وبذلت مع دولة الكويت الكثير من المساعي من أجل حلّها، وإذا كانت هذه المساعي لم تفلح في الحلّ، إلا أنها خففت من تصاعد التوتر وعدم اتجاهها إلى منحنى أشد تأزماً .
تلك مجرد أمثلة على ثبات ورسوخ السياسة العمانية، لا تتدخل فيها الأهواء، ولا تزعزعها المتغيرات، ولهذا فإن سلطنة عمان جنبت نفسها وشعبها ومن يقيم على أرضها الخوف والقلق من الدخول في صراعات وفتن لا طائل من ورائها غير الهلاك والدمار، وستظل هذه السياسة كما هي في العهد السعيد، لن تتزحزح قيد أنملة .