الصحوة – مصعب بن خميس الشكيلي
شاع التأليف عند العرب في المشرق، وعند عرب الأندلس حتى بلغ شأواً كبيراً، ونبغ فيه وأبدع عدد لا يحصى من الكتاب والمؤلفين ممن شغلوا مناصب حساسة بالقرب من سدة الحكم ، وفي أروقة القضاء ، وفي زوايا المساجد لنقل العلم .
وسنختار أنموذجاً لذلك، وهو صاحب كتاب طبقات الأمم القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبدالرحمن التغلبي الأندلسي الذي توفي في ٤٦٢ هجري .
حاول أبوالقاسم في كتابه طبقات الأمم، أن يستكمل ما بدأه أستاذه ابن حزم الأندلسي، في تتبع الشخصيات والعلوم في الأندلس وغيرها ، لكن تلميذه أبدع في الإضافات التي زاد فيها عن أستاذه .
ولتوضيح ذلك، سنذكر في تطواف سريع – محتويات هذا المؤلَّف الذي يتكون من جزأين
يبدأ الكاتب بتوطئة، يتحدث فيها عن دأب كتبة العرب على التأليف في علوم الأمم وتتبع أخبارها وعلومها وعلمائها وحدود بلادها . ثم بوّب الكتابَ إلى أربعة أبواب ، كالتالي :
* الباب الأول : عن الأمم القديمة،
وأتى فيها على سبع أمم، عدّها الأقدم في العالم، وهي كالتالي :
– الفرس، وعرّف حدودها ومدنها ولغاتها.
-ثم ذكر الكلدانيين، وهم السريانيون والبابليون ومسكنهم العراق ، وذكر أن اللغة السريانية تفرعت إلى عدة لغات منها العربية التي يتكلم بها العرب الذين يقطنون الجزيرة العرببة واللغة العبرانية التي يتحدث بها بنو إسرائيل الذين سكنوا الشام . وكذلك عرّف الحدود والمدن واللغة.
– وذكر بعدها اليونانيين والقبط المصريين وما حولهم من بلاد السودان والحبشة والنوبة والزنج والبرابرة. والترك والهند والسند والصينيين.
* الباب الثاني: اختلاف الأمم وطبقاتها بالأشغال . وهو باب قصير وتمهيد للأبواب التي بعده، وضح فيه المؤلف الأمم التي عُنيت بالعلوم والأمم التي لم تُعْنَ بالعلوم. فعيّن أمم الهند، الفرس، الكلدانيين، العبرانيين، اليونانيين، الروم، أهل مصر والعرب باعتبارها الأمم التي عُنيت بالعلوم . وفي المقابل عيّن أمم الصين، والترك وبقية الأمم التي لم تُعن بالعلوم.
* الباب الثالث: فصّل الأمم التي لم تُعن بالعلوم. وذكر منهم الصينيين وأنهم من أكثر الأمم عدداً، وأفخمهم مملكة وأوسع الأراضي مساحة. وبسبب بيئتهم هم أصبر الناس على مقاساة التعب، ووصف حدود بلادهم بشيء من التفصيل.
أما الترك، فذكر أن عددهم كبير أيضاً، ومملكتهم فخمة ولهم شغف كبير في الفروسية وحذق في الحروب وصبر عليها. وحدد أراضيهم من جميع الجهات.
* الباب الرابع : فصّل في الأمم التي عُنيت بالعلوم، وهو آخر الأبواب وأطولها وأكثرها تفصيلا :
الأمة الأولى، أمة الهند ونقل المؤلف رأي أهل العلم بالنجوم رأيهم في تميز شعب الهند عن بقية شعوب السودان والحبشة والزنج في أن كوكبي زحل وعطارد كان لهما الدور الرئيسي في تكوين بنيتهم العقلية واللونية . فزحل قسم لهم اللون الأسود، وعطارد قسم لهم الحكمة والعقل. وقد برع الهنود في الحساب ومعرفة حركات النجوم وأسرار الفلك والطب. ولهم مذاهب في علم النجوم، هي: مذهب السند هند ، مذهب الازجير، ومذهب الأركند. ومن أمثلة تجسيدات الحكمة كتاب كليلة ودمنة الذي تُرجم إلى الفارسية ثم إلى العربية.
أما الأمة الثانية، فهي أمة الفرس الذين امتد حكم بني ساسان فيهم حتى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة المحمدية، عندما قُتل آخر ملوكهم يزدجرد بن شهريار في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. ودانت الفرس بالمجوسية وبرعت في الطب والنجوم.
كذلك العلم عند الكلدانيين كما ذكره المؤلف فإنهم برعوا في العلوم الرياضية والإلاهية والفلك، ومن أبرز علمائهم هرمس البابلي الذي عاصر سقراط اليوناني.
الأمة اليونانية، التي لا يمكن أن يغفل عن إنجازاتها أحد له شأن بالعلم، فإن منهم الفلاسفة وعلماء الرياضيات والفلك والعلم الإلاهي وقد نقلت وترجمت كتبهم للغة اللاتينية ثم العربية، لما زخرت به من معارف وعلوم. بل انقسم فيها العلماء والفلاسفة إلى مدارس عدة لكلٍ منها تلاميذ ومريدين. منهم بندقليس، فيثاغورث، وسقراط الذي تتلمذ على يد فيثاغورث، وأفلاطون وأرسطاطاليس. ولقد أخذ منهم علماء العرب، وكانت بينهم خصومات برغم الفارق الزمني الكبير بين فلاسفة العرب وفلاسفة اليونان.
ثم أمة الروم، الذين تغلبوا على اليونانيين وضموا ثقافَتَهم إلى ثقافتِهِم ونقلوا علمَهم إلى علمِهِم فنبغ منهم العلماء في الطب والفلك والفلسفة. وقد دانت الروم بالنصرانية بعد أن دان بها إمبراطورهم قسطنطين ودعا الناس إلى التنصر.
وسرد المؤلف أبو القاسم الأندلسي علم أهل مصر وأنهم برعوا وأتقنوا علم الكيمياء والفلسفة والطب والهندسة التي مكنتهم من بناء الأهرامات العظيمة باقية الأثر إلى يومنا.
وأكثر الأمم ذكراً عند صاحبنا المؤلف القاضي صاعد الأندلسي أمة العرب. ولئن أطال الكاتب في ذكر علوم اليونانيين، فإنه بالتأكيد سيطيل أكثر في ذكر علوم العرب، لما كانت لهم من آثار في جاهليتهم، وآثار أخرى بعد إسلامهم. ولا يقتصر الأمر عند الفارق الزمني، بل كان للفارق المكاني أثر بالغ فقد كانوا يتواجدون في منطقتين جغرافيتين مختلفتين، في الشرق متمثلة في الجزيرة العربية، وفي الغرب متمثلة في الأندلس دار العرب المسلمين. وبرغم البُعدين الزماني والمكاني إلّا أن العرب في أصلهم لا يعدون أن يكونوا إما قحطانيين أو عدنانيين.
علم العرب في لسانها وإحكام لغتها ونظم شعرها. وهم أصحاب حفظ ورواية وملكة لسانية. كما لهم علم بالنجوم نتاج العناية والتجربة لاحتياجهم في السفر، لا على سبيل تعلم الحقيقة وجمع العلوم.
وقد ذكر المؤلف أنساب العرب وقسمهم إلى بائدة وباقية، وبيّن مكان سكناهم في مأرب وهجرتهم بعد انهيار السد إلى بقية صحراء الجزيرة العربية.
أما بعد الإسلام، فإن العرب عنَوْا عناية شديدة بلغتهم وأحكام شريعتهم. وقد كان فيهم من أهل الطب الحارث بن كلدة الثقفي وأبي رمثة التميمي في عهد النبي.
وقد بلغ العلم أوجَه وذروته عند العرب أثناء حكم بني العباس، وبالتحديد في عهد عبدالله المأمون بن هارون الرشيد على وجه الدقة والتحديد. فكان له اهتمام كبير بالعلم والعلماء، خاطب ملوك الروم وطلب منهم أن يزودوهم بعلم وكتب اليونانيين فلبّوا طلبه. وانتشر في عهده وبعده العلم والتأليف والترجمة، واشتهر من العرب علماء في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء وعلوم الدين.
وقد قدم الكاتب عرضاً تفصيلياً في ذكر العلماء وعلومهم ومؤلفاتهم وتلاميذهم. فذكر من العلماء محمد بن إبراهيم الفزاري، ويعقوب بن اسحاق الكندي، ومحمد بن زكريا الرازي. ومن المناطقة والفلاسفة عبدالله بن المقفع، وأبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي.
هذا ما اشتُهِر به أهل المشرق،
وأما أهل المغرب من الأندلس، فقد برعوا بمثل ما برع به أهل المشرق من الهندسة والطب وحساب النجوم. ومن علمائهم يحيى بن يحيى الذي برع في الطب والفقه والنحو وحساب النجوم. ومنهم أبو غالب حباب بن عبادة الفرائضي وأبي جعفر الطبري.
وآخر الأمم ذكراً هم بنو إسرائيل، فإنهم إنما اشتهر عنهم العناية بعلوم الشريعة وسير الأنبياء في الغالب وكان منهم من أتقن الطب والهندسة والنجوم.
هذا ما ذكره القاضي أبو القاسم صاعد الأندلسي. فإننا وإن أطلنا فقد استغنينا بالإجمال عن التفصيل، وإلا فإن المؤلف قد فصّل تفصيلاً شديداً على الأخص في أمتي اليونان والعرب. كما وذكر لجميع الأمم حدود بلادها ولغاتها وألوان شعوبها ودياناتها. وكان القاضي على درجة من الصدق بأن صرح في قوله عند الحديث عن أمة العرب :” ولست أدعي الإحاطة بهم جميعاً، فقد يمكن أن يكون في من لا أعرفه من يربو على كثير من هؤلاء”.
والقاضي صاعد الأندلسي لا يقل في علمه عمن ذكرهم، فإنه في تحليله علوم السابقين وفهمه إياها والتفصيل الدقيق فيها دليل على ذلك. والسلام