الصحوة – مصعب بن خميس الشكيلي
صادف في وِرد القراءة الأسبوعي، أن يقع بين يدي كتاب “لغة القرآن الكريم، إعجاز أم مجرد عبقرية ؟ ” للكاتب أحمد بسام ساعي.
صدرت طبعته الأولى عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام (١٤٣٤هجري/٢٠١٣ ميلادي). وقد قسّمه إلى عناوين متفرقة.
وكان مما ذكره في سبب تأليفه؛ أنه طلب منه مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية للطلاب البريطانيين، محاضرة في “فهم اللغة العربية من خلال القرآن الكريم” فناقشه زميل له مستشرق في أيهما أصح؟ ما زال أم لا زال؟ فكانت هذه شرارة البداية، والدافع للمؤلف بأن يُدخل لغة القرآن إلى مخبر الفحص اللغوي ، وهو الذي كانت نتيجته إظهار الإعجاز اللغوي القرآني. ومن نتائجه أيضا أن الألفة والتكرار اليوم هو أحد أخطر الأسباب في عدم الإحساس بهذا الإعجاز .
تساءل المؤلف عن سبب العظمة في لغة القرآن أهي إعجاز أم عبقرية ؟
ولكي يجيب على هذا التساؤل، قام بتعريف مصطلحات السؤال، فعرّف الإعجاز : بأنه ما لا يقدر عليه البشر. ولكن ما الإعجاز في القرآن الكريم؟ وما الإعجاز الذي يزيل الألفة والتكرار ؟
لم يُرد المؤلف بمعنى الإعجاز، العبقرية والفصاحة والتفوق والجمال، كما نهجه علماء اللغة القدماء، في استخراج الإعجاز من القرآن، مما جعله يخرج عندهم على ثلاث صور :
* الجانب الجمالي أو البلاغي، وفيه محاولة لإثبات أن القرآن معجزة جمالية في لغته ونظمه، ومن أمثلة من تحدثوا في ذلك، الجاحظ وأبو هلال العسكري وأبوبكر الباقلاني وعبدالقاهر الجرجاني وغيرهم .
* الجانب التعبيري، وهو من وجهة نظره، محاولة إثبات معجزة القرآن في دقة تعبيره، فتحدث العلماء عن الفروق اللغوية الدقيقة بين ألفاظه، وتعبيراته، وتراكيبه. فألف القاضي عبدالجبار أسد أبادي كتابه “المتشابه” ويعني به المتشابه في القرآن الكريم .
* الجانب العلمي، وهو محاولة إثبات أن القرآن معجزة علمية بما جاء فيه من حقائق كونية لم تكتشف إلا في عصور متأخرة . وهذا بسبب مرونة لغة القرآن وانفتاحها على كل العصور والأزمان، كما سيأتي ذكره في محله. كثير من العلماء وفطاحل اللغة من القدماء والمحدثين من طَرق بوابة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، فمن القدماء الجاحظ، الماوردي، الغزالي والقاضي عياض وغيرهم. ومن المحدثين : الاسكندراني، الكواكبي، وطنطاوي جوهري. وكتاب عبدالرزاق نوفل الذي يحمل اسم ” الإعجاز العددي في القرآن الكريم” تطرق فيه الكاتب إلى المثاني المتقابلة من ألفاظ القرآن الكريم. مثلا : ألفاظ الليل والنهار ، والجنة والنار ، والملائكة والشياطين.
هناك ما دفع هذا الكم الغفير من علماء اللغة لفحص لغة القرآن واستنباط الإعجاز من آياته. فما الذي ينقصنا لفهم القرآن كما فهمه العرب الأوائل. فبه نكتشف من الإعجاز ما اكتشفوا، ونحس بما أحسوا؟. ما الذي جعل العرب الأقحاح واجمين أمام لغة القرآن الكريم. فتحدّاهم القرآن بأن يأتوا بمثله فعجزوا . ليس هذا وحسب بل قلل درجة التحدي بأن يأتوا بعشر سور من مثله . ولما لم يستجب منهم أحد عرض عليهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، بل وجاء التحدي مرتين في سورتين مختلفتين متباعدتين في التنزيل (سورتي البقرة ويونس)، وهذا لعمري قمة الإعجاز وذروة الثقة.
ألم يحسب القرآن حساب عباقرة اللغة وفطاحلها ؟ فماذا لو اجتمعوا على أن يأتوا بسورة واحدة قصيرة مثل سورة الكوثر !؟
لما أراد أن يُخضع لغة القرآن الكريم للفحص كما ذكر، اكتشف في كل آية وفي كل لفظة اختراعاً أو أكثر، تبين له بها أن هذه الاختراعات ليست علمية ولكنها مستجدات لغوية مذهلة ومستعصية، تصيب من يحاول تقليدها بالعجز والإحباط، فهذا الوليد بن المغيرة أعلم قريش بالشعر، رجزه وقصيده ، وإنسيّه وجنّيّه، نراه واجماً عند سماعه القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعاد قائلا لقومه :
والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه لَيحطم ما تحته.
لو كان من المستطاع العودة بالزمان أربعة عشر قرناً فنستمع إلى القرآن بأُذُنَيْ ذلك الأعرابي لأمكننا بالفعل الشعور بالنشوة الحقيقية التي شعر بها المسلمون، أو نقف على الأقل مشدوهين من سبك آيات القرآن كما ذُهل به المشركون.
مع أن العرب أهل بلاغة وبيان إلا أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خلقت ثلاثة معاجم لغوية في بيئة واحدة، لدرجة أن القاريء العادي قادر على التفريق بين المعاجم الثلاثة بكل سهولة، ليجد معجم العرب الجاهليين، ومعجم القرآن، والمعجم النبوي متمثلاً في الأحاديث النبوية.
القرآن فاجأ العرب بألفاظه وتراكيبه وطريقة سبكه فأصابهم بالحيرة والذهول .
وفيما يلي بعض من إعجاز القرآن بشيء من التوضيح. القرآن لم يقتصر على الألفاظ فقط، بل تعداها إلى تشكيل علاقات بين الألفاظ ومواقعها. ثم أنه لم يأت بلغة جديدة منفصلة عن العربية، ولكنه أوجد مستجدات في الألفاظ لم يعهدها العرب ولكنهم فهموها، بل إنك تكاد تجد في السورة الواحدة من المستجدات ما يفوق كلمات السورة ذاتها. أحصى الكاتب أكثر من ثمانية وخمسين مستجدة في سورة الفاتحة التي عدد كلماتها تسعة وعشرين كلمة، وغيرها في بقية السور، لن نطيل بذكر الأمثلة بها لأن ثمة ما يُبهر أكثر. فالقرآن تفرد دون لغة البشر باستخدام الفعل الناقص “كان” بمعنى “إنّ” في ما لا يقل عن مائة وتسعين مرة . وأهيب بالقاريء العودة إلى الكتاب للاستزادة من الأمثلة والتفاصيل .
من إعجاز القرآن أيضاً، أن يُخيل للقاريء تداخل بعض السور، وذوبان إحداهما في الأخرى بسبب تشابه التراكيب والتعبيرات ووحدة الفاصلة (إيقاع آخر كلمة من كل آية)، كسور المرسلات والنازعات، والليل والأعلى. وهذا لا يُسقط من استقلال شخصية كل سورة عن الأخرى. فبعد التمحيص والفحص تبين أن سورة الأعلى قوامها يتركب من ستة وعشرين تركيباً، وتشارك غيرها من السور في أربعة تراكيب فقط. أما سورة الليل فقوامها خمسة وعشرون تركيبًا، تشارك غيرها في ثلاثة منها فقط.
زاد القرآن في إعجازه على ميزة السبك وتفرد التراكيب، بمميزات أخرى لفظية. فمسمى قرآن, هو مسمًّى فريد لم تعرفه العرب قبلًا، وكلمة سورة, من السور, تفيد أن لكل سورة سور خاص بها يمنعها من التقليد . أما “آية”, فاسمٌ على مسمى في الإعجاز .
والكاتب ذكر عشرين ميّزة للقرآن لم يشركه بها أي كتاب آخر. وفي كتابنا ما يدعو للعجب من إحصاء لعدد الآيات في مقابل عدد السبائك بها. هذه السبائك القرآنية شديدة الحفاظ على نفسها، لدرجة أن أدنى تغيير يلحق بها يفقدها وزنها.
ولنزيد من شدة إعجاب القاريء نبين مزيداً من الإعجاز في القرآن في وقفة مع التراكيب القرآنية وتعبيراتها. وللتوضيح أكثر نبين الفرق بين التعبير والتركيب ، إذ أن التركيب لا يقدم معنى كاملًا، ومادته الأدوات والحروف، أما التعبير فإنه يقدم معنى كاملًا ، ومادته الأسماء والأفعال.
الأمثلة من سورة المدثر كونها أكثر السور مصادمة للغة العرب فمن التراكيب قوله تعالى :
“فذلك يومئذ”
“فقُتل كيف”.
ومن التعبيرات، قوله تعالى :
” يا أيها المدثر ”
“قم فأنذر”.
قد لا تظهر الآيات أيّة معجزة، ولكن مختبر الفحص أظهر بها اثني عشر تركيباً جديداً لا يوجد في غيرها، فضلًا عن خمسة وستين تعبيراً قرآنياً جديداً منها اثنين وخمسين تعبيراً خاصاً بسورة المدثر.
قد يتساءل المرء: كيف تكون الألفاظ جديدة على العرب في لغتهم التي هي ساحة حربهم وميدان استعراضهم ؟ سؤال منطقي.
الألفاظ القرآنية الجديدة جاءت خمسة أنواع كما يلي:
الأول : يكون اللفظ معروفاً عند العرب، ولكن القرآن يعطيه معنى اصطلاحياً جديداً يُفهم من السياق . مثل : سلطان، مرض، تولى، الصالحات.
الثاني : يكون اللفظ جديداً باشتقاقه، ولكنه مأخوذ من جذر لغوي معروف عند العرب. مثل: ملكوت، طاغوت، صلوات، مقامع.
الثالث : اللفظ يتجاوز مرحلة الجدة إلى مرحلة أكثر تفاعلًا وحيوية مع الحياة اليومية. مثل: المؤمن، الكافر، المساجد، الساعة.
الرابع: لا يكون اللفظ ولا جذره معلومَين، ولكن يأتي السياق موجهًا لمعناه، وتكون غالباً هذه الألفاظ معرّبة من اللغات الفارسية، اليونانية، الحبشية وغيرها. مثل: الصراط، قسورة، برزخ، قسطاس.
الخامس : يكتسب اللفظ جدته من المعنى المجازي الجديد الذي أضفاه القرآن عليه. مثل: يتزكى، السدرة، الميزان، الهدى.
ولقد توسع الكاتب في ذكر الألفاظ القرآنية الجديدة وخاصة في مادة البحث (سورة المدثر)، وقارن بين اللفظة القرآنية وبين السبيكة القرآنية، ثم أورد عدداً من الألفاظ والأدوات الجديدة لا يتسع المجال لذكرها.
ومع أن الكاتب أطنب في ذكر الإعجاز القرآني المتمثل في الوحدة القرآنية وأدوات الربط في الوصل والفصل، إلا أنني سأختم المقال بنقطتين مهمتين في نظري .
– الأولى: العلاقات الجديدة بين الألفاظ.
– الثانية: الرد على المشككين في أن الالتفات القرآني مجرد خطأ.
من عجيب الربط بين الألفاظ في القرآن أن يكون الربط على غير ما عهدته العرب في كلامها. ففي الآية:”مالك يوم الدين” من سورة الفاتحة. هنا ربط القرآن الملك بأداة زمن هي (اليوم)، ويزيد العجب عندما يربط الزمن بفكرة، ذلك أن المعهود عند العرب أن يرتبط الملك بشيء محسوس كأن تقول: مالك البيت. ثم إن الزمن لا يرتبط بفكرة مجردة؛ إنما مجال ربطه يكون بحدث معين كقولك: زمن الحداثة. والواقع أن العربي استشعر قوة الأسلوب فكان سبباً في انصدامه.
أما الرد على المشككين فنجمله في ثلاث نقاط:
الأولى : إن القرآن أقدمُ من القواعد، فضلا عن أنه هو الحافز لوضعها، الضابط الرقيب عليها ولا غرو في ذلك، بمعنى أن القواعد إنما تم استنباطها واستخلاصها من القرآن الكريم .
الثانية: من قال بنسبة القرآن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإننا نرد عليه بسؤال. لماذا لم يخطيء النبي بحديث واحد من أحاديثه، مع أن جملة كلامه يفوق القرآن بعشرات الأضعاف. فهل يُعقل أن يسلم كلامه اليومي المرتجل, ولا يسلم الكلام الذي يعتكف على صياغته وسبكه؟.
الثالثة: لو كان في القرآن أخطاء، أفلم يكن جديراً بأهل الصناعة واللغة أن يكتشفوها ويظهروها! خاصة في القرنين الأولين، حيث نقاوة اللغة، وصفاوة السليقة، وغياب العجمة عن اللسان العربي.
هذا إجمال ما نثر الكاتب في كتابه مع اقتصار لما وقع نظري عليه لأهميته، مع حرصي على عدم إغفال شيء أو الإشارة إليه بما يدعو القاريء للعودة إلى الكتاب الأصلي فينعم النظر فيه، ويرتوي بما فيه من مظاهر الإعجاز القرآني. ثم إن التحدي الذي جاء به القرآن وأوردناه في مقالنا ما زال متاحاً حتى اليوم إن كان هناك من يستطيع أن يمد رقبته إلى السماء فلا تعود إلى الأرض حاسرة خاسرة خاسئة .
والسلام عليكم