الصحوة – ثريا العذالية
يعد الشباب رأس المال الذي لا ينضب والعمود الأساس الذي ترتكز عليه الدول في النهوض والتقدم، إذ أنهم يشكلون ثروة مهمة تتطلب غرسًا مثمرًا وبناء رصينًا ليسهموا في قيادة بلدانهم وتنميتها وتطويرها، وهو الهدف الذي تسعى إليه كل الدول وتعمل على تحقيقه بكل ما أوتيت من قوة وفرص. ولا يتحقق ذلك بين ليلة وضحاها فالأمر يكمن في الكيفية التي يمكن فيها استثمار العقول الشابة ذي القدرات الفاعلة في التعاطي مع مختلف التخصصات والعلوم الحديثة. فالأفراد في عمر الشباب يتمتعون برغبة عالية في التلقي، وحماس أكثر للعطاء، وقدرة على التصدي للتحديات. ولكن يتوقف الأمر عند السياسات والاستراتيجيات التي تضعها الدول في هذا الشأن ومدى اكتراثها بالشباب واستثمارعقولهم واستغلالها بما يعود بالنفع على المجتمع والأمة.
ولو أمعنا النظر فيما يدور حولنا وما يزدهر بين الحين والآخر لعلمنا جيدًا أن خلف كل ذلك، عقول بشرية سخرت نفسها للعمل والتطوير والبناء، فالتطور الذي طال مختلف المجالات العلمية – كالطب، والهندسة، والفضاء، والعلوم الأخرى، والعلوم الإنسانية – أعظم دليل على قدرة العقل البشري في التعامل مع معطيات الحياة إذا وجّه بالطريقة الصحيحة التي تخدم مقتضيات العصر.
ولعل مصطلح “استثمار العقول” شاع كثيرًا في الأونة الأخيرة، ويعني تسخير عقول الأفراد وبنائها والعمل على إكسابها المهارات وتدريبها، والاستفادة مما تقدمه من أفكار ومعلومات ومعارف تخدم المصلحة العامة وبناء الأوطان، وعدم إهدارها أو التقليل منها أو تجاهلها فتصبح متصحرة هالكة.
وإن ما تفعله بعض الدول الغربية والآسيوية هو أقرب مثال على أهمية استثمار العقول والانتفاع بها، إذ أنها تقدس العقول وتحترمها وتوليها اهتمامًا كبيرًا واضحًا، وهي في ذلك لا تقتصر على عقول أبناء بلدها فقط، فالملاحظ أنها حريصة على استقطاب أي فرد يمتلك عقلًا واعيًا نشطًا بغض النظر عن جنسيته وديانته، فالاختلاف غير مهم ما دام المبتغى سيتحقق. ونلاحظ على الرغم من موقفها المتشدد ضد العرب والمسلمين إلا أنها تزخر بعدد هائل من العقول العربية التي حطت رحالها في دول أتاحت لهم مساحة واسعة من حرية التفكير، والإبداع، والعمل، والإنتاج، كما أنها توفر مختبرات، ومصانع، ومراكز أبحاث وغيرها من الخدمات المغرية والمحفزة على العمل والابتكار. ولا يخفى علينا العروض التي تقدمها لجذب العقول إليها، ومن العروض الشائعة منح الجنسية والإقامة الدائمة وخدمات تفوق أحيانًا تلك المقدمة لأبناء البلد.
وعلى سبيل المثال سنغافورة من الدول التي كانت تعاني من فقر مدقع وبؤس شديد يفتقد سكانها فيه لأبسط ضروريات الحياة، إلا أنها اليوم تعيش أزهى أيامها وأرقاها، واستطاعت تحقيق نهضة اقتصادية ترتب عليها قيام دولة مختلفة تمامًا يشار إليها بالبنان، وانعكست آثارها الإيجابية على سكانها الذين يتمتعون بمستوى معيشي راق. وهذا الأمر لم يكن ليحدث لولا إيمان المسؤولين فيها بعقول أبنائها وحرصهم على تذليل الصعاب لهم للانتفاع بخبراتهم ومعارفهم التي تظهر نتائجها فيما نراه اليوم في دولة سنغافورة من رقي وأمان وانتعاش اقتصادي وغيره.
ومن منطلق ذلك يمكننا القول أن الدول العربية لا ينقصها شيء سوى أن تتخلى عن فكرة الاعتماد على الغير وتركز على الاستثمار في العقول التي تنعم بها بلدانهم، وتذليل كافة الصعاب لهم وتزويدهم ببيئة عمل تحتضن شغفهم وإبداعهم وتوظف مهاراتهم لترى النور على أرض الواقع؛ حتى لا يأتي يوم نرى فيه العقول تهاجر بعيدًا إلى دول أخرى تحتضن أفكارهم وأهدافهم وطموحاتهم. كما يجب على دولنا أن تعير الباحثين والعلماء والأدباء اهتمامًا أكبر من خلال إنشاء مراكز أبحاث، ومباني ثقافية، ومختبرات أو مصانع مجهزة تدعم العقول وتحفزها على العطاء دون ملل؛ ليصبح ما يقدمونه ذو جودة عالية يخدم مصالح الدولة واقتصادها ومكانتها بين الدول الأخرى.