الصحوة – مصعب بن خميس الشكيلي
إن لِضعف الإنسان وعجزه على – رغمه – علامات وأدلة، يغني القليل منها عن الكثير ، كما يُغني المُعاش منها عن غير المجرب أو العلمي . فإذا علمتَ ذلك علم اليقين، ورأيتَه عين اليقين، أصابك من الدهش والذهول ما يطيش له العقل، ومن الشدَهِ والاستغراب ما يجعل البصر يرجع خاسئاً وهو حسير . ومن ذلك علم الإنسان يقيناً، بعجزه عن شفاء نفسه، فضلًا عن شفاء غيره، وعن جلب المنفعة والخير لنفسه أو لغيره ممن يحب ويهوى.
ولو حصرنا أنفسنا في واحدة منها لتبيّن للإنسان عجزه ولانكشفت سوءة ضعفه .
ولْنأخذ البرء من الأسقام كأحد الأمثلة :
تمرض؛ فيضنيك المرض ويبلغ منك الجهد مداه، فما تفكر في غير الطب كي تستطب، فلا تشفى. تبقى حائرا مع مرضك فتزيدك الحيرة مرضاً فتشقى، متعجبا من عدم شفائك. رغم أخْذك بالأسباب، تفكر ثم تقدر ثم تنظر ثم تعبس وتبسر، حتى تدرك أنك عاجز بالكلية، فيستحيل عقلك من المنطق المحسوس المادي إلى الجوهر الحقيقي الغائب دائمآ – أو قلْ المغيب – ربما لنهرب من حقيقته المحتومة، ونتيجته المختومة، تنقطع من بين يديك الأسباب ويستفحل عجزك لولا أن تداركك من الله نعمة، بأن جعل بينك وبينه من أسباب الوصل وأدوات الاتصال ما يربط قلبك بالله موقناً مقتنعاً، متمثلاَ في الدعاء والصلاة. فتنيب وتؤوب إلى الله سائلاً راجياً الخلاص من السقم، والرجوع لحال الصحة المفقودة، والعافية المنشودة. بهذا يحصل الربط القطعي بين ما هو أرضي وبين ما هو سماوي. ولا يمكن لعاقل الفصل بينهما ولا قطع أحدهما عن الآخر، فالأرضي محتاج بشدة لإكمال نقصه بالسمو السماوي، والسماوي هو التمام والكمال لما هو أرضى، وتلك – الحقيقة الغائبة – التي نقصد .
ولن نحكي ما يصيب الإنسان من الحرقة، وما يكوي قلبه من الألم وهو يرى نفسه عاجزا كالطير بلا جناح لا يقوى على الطيران. هو عاجز عن نفع نفسه وعن جلب الخير لها، فضلاً عن تقديم ذلك لمن يحب، تراه يتقلب في حاجته، وأنت تتقلب في حرقتك عليه، ثم لا تملك من الأمر شيئاً .
وانظر لنفسك حال صحتك، وعز قوتك ، هل اعتمدت أسباب الوصل، وقوّيت أدوات الاتصال مع الله ؟ وهل صنعت في أيام رخائك ما يشفع لك في أيام شدتك؟ وهل هجرت حاجبات الأرزاق من المعاصي ، الآخذات بالأقدام والنواصي، واستبدلتها بالمنجيات من الطاعات ؟
وما أنت فاعل في خلوتك؟ هل انتهكت الحرمات، وتجاوزت حدود السيئات ، وعثْتَ فساداً في حمى الله ؟ ألم تعلم أن لكل ملك حمًى، وأن حمى الله محارمه؟
ثم انظر ، كيف هي سريرتك؟ هل تماثل أو تقارب علانيتك، كما هي سريرة المؤمن الحق وعلانيته ؟ هل ارتضيت لنفسك السوء ولم ترض أن يعرف أو يسمع عنك الناس؟ فرفعت من قدر الناس وحططت من قدر نفسك، وبالتالي لم تقدّر الله حق قدره؟
ألم تسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “إياكم والمعاصي فإن العبد ليذنب فينسى به الباب من العلم وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وإن العبد ليذنب الذنب فينسى فيحرم به رزقاً قد كان هيّء له”.
لنفرض جدلا أنك وقعت، وهذا وارد بما يعتري الآدمي من نقص وعيب بمقتضى القبضة الطينية الشاغرة لنصْف كيانك البشري، فماذا صنعت لتخرج من ظلمات الغي وغيوم السيئات وتراكمات الخطيئات؟
قال النبي المجتبى في حديث معاذ بن جبل:” اتق الله حيثما كنت، وأتبِعْ السيئةَ الحسنةً، تمحها، وخالِقْ الناس بخلق حسن”.
اتضح الطريق، وبانت معالمه. لم تتقِ فوقعت، ولكن المخرج من ذلك في تكثير الحسنات، وعمل الصالحات.
فهل خالقت الناس بالحسنى؟ ووصلت ما قطعت من الرحم؟ وصدقت فيما تحدثت من الحديث؟ وحملت الكَلّ؟وأعنت المحتاج؟
هل قدمت من النوافل ما تستجدي بها لطف الله وتستغيث به رحمته؟ ألم تقرأ الحديث القدسي:” وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه…” الحديث.
فإن رحمات الله تستجدى ويفتقر لها. ولا ينازع الله في ملكه، إنما يُسأل ويطلب بالخضوع والذلة بمرتبة العبودية التي هي لعمري درجة عالية عند الله، بل ويتحرى لها العبد الأوقات التي فيها مظنة الإجابة.
ما بين إجمال وتفصيل والمرء قد تسدر نفسه في الغي فلا يطيق أرجاعها، إلا بمدد سماوي، وإغاثة إلهية،فتأتي الآيات والأحاديث تفتت القنوط بعد أن أصبح كالجبل، فتصبح قناديل أمل، تزيل سراب اليأس من التوبة بعد أن عقدها الشيطان. قال تعالى:” قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله…” الآية وقال المولى في علاه:” إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون” الآية.
فتُسر القلوب وتنفرج الأسارير بهذه البشرى، بل جاء في الحديث النبوي أن الله يفرح بتوبة العبد .
إذن، الميزان بين يديك الآن، فزنْ أعمالك، وانظر ما يدنيك من الله وما يبعدك، وانصف في حكمك. هل تستحق رحمة الله وإن لم تكن الرحمة إلا برحمة الله ليست بأعمالك، ولكن حال من عمل ليس كحال من لم يعمل، وحال من أخذ بالأسباب وعقل ناقته، ليس كحال من أرخى عقال دابته وتواكل . وجماع ذلك كله، التقوى”
والله المستعان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته