الصحوة – سالم بن محمد السعيدي
إن الزائر لحارة الخبت العريقة بتاريخها وتراثها، أثناء تجواله في أزقتها وسككها، لا بد له من العروج إلى صرحها الشامخ شجرة الإمبوة، هذه الشجرة التي نبتت وسط بساتين النخيل الوارفة، وعلى جدار حوض تجمع مياه فلج الخبت (اللجل) تروي ظمئها من ساقية فلج العاضد، شهدت قرون وأزمنة، وهي شامخة شموخا كالجبال الراسية، ليستظل بظلالها الوارفة، ويستمتع بهوائها العليل، وصوت خرير المياه العذبة المتدفقة من اللجل، وحفيف أوراقها الخضراء وكأن لسان حالها يردد قول الشاعر:
إن الناس التي تسأل عنهم يا فتى***بالأمس كانوا هنا واليوم رحلوا
نعم إنهم رحلوا وتركوا هذه الشجرة الجميلة تكابد ألام الفراق والهجران، حيث كان جمع غفير من السكان والأعيان والزوار لهذه الحارة يلذون بها أثناء الصيف الحار؛ ليستظلوا بظلالها الوفيرة، وهم يحتسون القهوة العمانية مع الرطب أو التمر، التي جادت به الخبت من أصناف النخيل مثل: النغال، والخشكار، والفرض …الخ. وكذلك الفواكه كالمانجو، والتين، والعنب، والسفرجل، يتبادلون الأحاديث الودية، والأخبار، ويحكون القصص والروايات، ويتناقشون أمور القرية ومستجداتها. كما أنها مقر لأفراح القرية وأعيادها، فكان صوت إطلاق النار احتفالا، وضرب الكاسر والرحماني له صديد في الجبال المجاورة –وخاصة قرن اللجل المطل عليها-، مشمولا بالفنون الشعبية كالرزحة، والعازي، والميدان، والفرح تحت ظلالها لا يكتمل إلا بموائد الطعام الشعبية، وخاصة الهريس، والعرسية، واللحم بكافة أشكال طهوه من شواء مع الخبز والعسل إلى المندي والفريد. كما كانت استراحة واستجمام لأصحاب القوافل السالكة وادي الصرمي من وإلى الظاهرة.
ومع كل هذا، كانت شجرة الإمبوة العتيقة بمثابة مقر لإدارة القرية وما جاورها، وهي بمثابة المؤسسات الإدارية، والقضائية، والتعليمية في المجتمع المحلي، فعلى الصعيد الاداري كانت بمثابة مركز إعلامي، فقد حمل القادمين إليها من شتى البلادين والقرى أخبارهم، وأخبار بلدانهم، وقراراتهم، وأخبار ما رواه أو قابلوه في الطريق، كما كانت مركز استقبال الرسائل (بروة)، ورد عليها، فحامل الرسالة بعد القيام بواجب الضيافة في حقه من قبل أهالي قرية الخبت تحت شجرة الإمبوة يعرض ما ورد في رسالة، وأهالي القرية يقابلون ذلك بالاتمام أو رد إذا كانت الرسالة تحتاج إلى رد، إذا كانت الرسالة من مسؤلين حكومين أو من ينوب عنهم، أما إذا كانت رسالة مصدرها قرية أو قبيلة فيكون رد عليها بعد اجتماع شيخ القرية بأعيان القرية وتشاور معهم حول مضمون الرسالة والرد عليها.
وكانت بمثابة المؤسسة التعليمية للقرية، فتحتها تعلم الأطفال كيفية الكتابة وحفظوا القرآن، واستسقوا من جلوسهم مع أهاليهم وكبارهم القيم والعادات والتقاليد الحميدة كالكرم، والفطنة، ورزانة الحديث، ليكبروا ويصبحوا من خير خلق الله، فشهد لهم القاصي والداني بكرمهم وأخلاقهم العالية، وأدائهم واجباتهم الوطنية في جواذر، ومسقط، وخصب، وفي كل ثغور عُماننا العظيمة، وظفار شهدت لهم بما قدمواه من الغالي والنفيس في صفوف الجيش العُماني الباسل.
وفي الأخير كانت بمثابة دار القضاء والعدل فتحتها مثِل المدعي والمدعي عليه أمام ذوي العقل والحكمة، ليحاول ذوي العقل والحكمة الإصلاح بين المتخاصمين، فأن مكنهم ربهم من الإصلاح بين المتخاصمين فكان خيرا للجميع، وإن لم يقدروا فإنهم يسنون حكم بناء على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأعراف ويدونون ذلك ليكون بمثابة حكم القضاء بين المتخاصمين. ولا يقتصر الدور القضائي لشجرة الإمبوة على هذا فتحتها كتبت عقود البيع والشراء، أكان بيع وشراء بما يتعارف عليه اليوم أو رهن أو قرض، وبحضور شهود من أهل الاستقامة من القرية.
وختاما فالزائر لها اليوم سيفتقد كل شيء، فلم تعد ظل يأوي الغريب، واستراحة لتجار، ولم يعد أحد يشاركها أفراحه وأحزانه، وأهل العلم عنها رحلوا، كما رحل المتخاصمون، وختاما أستذكر قول الشاعر:
فقلت يا دار أين أحبابنا رحلوا *** ويا ترى أي أرض خيموا بها.