الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
شدّني مقطعٌ مرئيٌ أرسله لي أحد الأخوة، يتحدث فيه أحد الأفاضل الكرام عن عقد المواطنة، حيث زعم فيه عدم وجود عقد مواطنة في منطقة الخليج ، وتصورٍ للهوية الوطنية الجامعة، وأنّ انتماء وولاء الأفراد ليس لأوطانهم بقدر ما هو للحكام . وقد ذكّرني هذا الكلام بنظرية العقد الاجتماعي عند هوبز، ولوك، وروسو، هذه النظرية التي تفسر نشأة الدولة ، بأنها ” تمّت بناءً على عقد اجتماعي ، مع اختلاف كل منهم بشأن أطراف العقد ومضمونه والآثار المترتبة عليه”.
وقد عُرف هذا التنظير لقيام الدولة ؛ بأنه أكبر اكذوبة سياسية عرفها التاريخ البشري لأنه لم يثبت مطلقاً يوماً من الأيام نشأة دولة بواسطة عقد .
ولست ادري ما إذا كان المتحدث يتكلم عن عقد مكتوب ، أم أنه يقصد عقداً ضمنياً ؟! فإن كانت الأولى فليأتِنا بعقدِ مواطنةٍ كُتب وتمّ التوقيع عليه ، في أي دولة من دول العالم بما فيها الدول الغربية التي يراها البعض قبلة للديمقراطية ، وهي ديمقراطية أثبت التاريخ أنها ديمقراطية خواء هزيلة ، تمّ التسويق والترويج لها بأسلوب خادع ماكر ، استُخدمت وسُخرت من أجلها ميكنة إعلامية هائلة ، وهي تقوم على المال والولاءات الحزبية ، والبرامج الانتخابية المكذوبة . أما إن كان المتحدث يقصد الثانية ؛ أي وجود عقد ضمني بين أفراد المجتمع ، فهذا ، وربي ، إنه لموجود وخاصة في هذه البلاد التي نعيش في كنفها ، ولكي نثبت صحة ذلك ، علينا أولاً أن نفهم معنى المواطنة الحقّة .
إنّ المواطنة الحقيقة ، هي التي لا إقصاء معها ، ولا تمييز فيها بين المواطنين في الحقوق والواجبات بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو المذهب أو اللغة أو المركز الاجتماعي ، وأنّ بناء الدولة والحفاظ عليها واجب ديني وأخلاقي وقانوني ، فعلاقة الفرد بوطنه علاقة تبادلية تُبنى على الحق والواجب ، وبموجب هذه العلاقة التبادلية تلتزم الدولة بحماية حقوق وحريات الأفراد ، وفي المقابل يلتزم الأفراد بواجباتهم تجاه الدولة ، وهذا ما تنص عليه دساتير الدول أو الأنظمة الأساسية لها .
وأما الانتماء للوطن ، فهو حالة فطرية تولد مع الإنسان تتجسد في شعوره الحسي للانضمام للوطن وقيام علاقة إيجابية قوية تصل ذروتها إلى الإخلاص للوطن والتضحية من آجله ، وهي لا تنقطع ولا تنفصم عُراها في كل الأجيال ، كونها فطرية كما أسلفنا ، ومن ضروريات ذلك الانتماء بداهةً ، الدفاع عنه ضد أي عدوّ أو ضرر يلحق أو يُراد به ، وهذا الانتماء جُبل عليه الإنسان الخليجي بشكل عام ، والعماني بشكل خاص ، ولم يحدث على مرّ التاريخ أنْ شهدنا حالة واحدة يتبرأ فيها مواطن عماني من وطنه ، حتى أولئك الأشخاص القلائل الذين اختاروا العيش خارجه لظروف خاصة بهم ، لم نسمع أنهم تجردوا من الانتماء لوطنهم .
أمّا الولاء فهو قيمة ثابتة لا تتغير ، وهو تأكيد عميق لمعنى الانتماء للوطن ، والارتباط به بكل قِيَمه ومبادئه ونظمه وقوانينه وتاريخه وحضارته ، وهو أيضاً الإخلاص له والحرص على سلامته وسموه ورفعة شأنه ، وأن يكون الوطن أولاً في كل الأحوال والظروف لا يسبقه بل لا يعادله شيء آخر مهما كانت الأسباب والمبررات ، لأنّه فوق كل شيء .
فالولاء بلا شك ينبع من ارتباط عقلي ووجداني ،والولاء للأوطان لا يتنافى البتّة مع الولاء والطاعة للحكام ، فطاعة ولي الأمر واجبة ما اطاع الله ورسوله ، وفي نظري ، لا يمكن الفصل بين الاثنين ، فبريطانيا مثلاً ، التي هي مهد النظام البرلماني ، فإن الملك أو الملكة محلّ إجلال وتقدير من الشعب البريطاني ، يصل إلى حد التقديس احياناً .
إنّ القول بعدم ولاء شعوب الخليج لأوطانها فيه إهانة لهم ، وتسطيح وتجهيل لعقولهم ، وما هكذا تورد الإبل يا رجل ، فهذه الشعوب ولله الحمد والمنة لديها نضج فكري وسياسي آمنت بأوطانها وارتضت بحكّامها ، وما حالة الأمن والاستقرار التي تعيشها المنطقة ، والتلاحم بين الشعوب وحكامهم ؛ إلا دليل على صحة ما نقوله ، وما نقوله ليس من نسج الخيال ، وإنما هو ترجمة للواقع المنظور والمحسوس ، فالأسر الحاكمة في دول الخليج مضى عليها قرون وليس عقود ، وانتقال السلطة يتم فيها بسهولة ويسر .
خاتمة القول في هذا الشأن ، إن المواطنة والانتماء والولاء للوطن ليست صكوكاً مكتوبة ، أو عقوداً مسجلة ، وإنما إيمانُ أمةٍ أقرّت به الألسن وصدقته القلوب ، وارتضَته النفوس والعقول ، فارتقَت وتسامَت باوطانها سمواً لا يضاهيه سموّ .