الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
كنت أشاهد برنامج ” فوق السلطة ” الذي تبثه قناة الجزيرة حلقة ٣٠/ ١٢/ ٢٠٢٢م ، واستوقفتني عدة موضوعات منه كانت شديدة الألم والأسى على حال كثير من الشعوب العربية والإسلامية.
١- فتاة سورية في العاشرة من عمرها تقريباً تمتهن البيع في الشوارع وعلى الأرصفة لتساعد اسرتها على كسب قوت يومهم ، وقد حاول المذيع وهو يقرب ناقل الصوت منها أن يستفسر منها عن حالها ، وكانت الكلمات التي تخرج من بين شفتيها تخنقها العبرات ، إلا أنها لم تستطع كبت معاناتها وهي الطفلة البريئة حتى انهارت وأجهشت في البكاء ، والدموع تسكب من عينيها ، متمنية أن تعود إلى مدرستها وضيْعتها – قريتها – التي تمّ تهجيرها منها مع اسرتها قسراً بسبب الحرب والدمار الذي شرد الألاف ، مثل كوثر المسكينة التي لا ذنب لها سوى أنها طفلة صغيرة تخاف من صوت المدافع والصواريخ التي تتهاوى على ضيعتها بسبب تلك الحرب المجنونة والاقتتال الدائر هناك دون رأفة أو هوادة من الأطراف المتصارعة التي تدعمها قوى خارجية لا تريد الخير لسوريا ولا لشعبها ، وإنما تدفعها مصالح متناقضة عنوانها الشر والخراب واستنزاف مقدرات الدولة والشعب .
٢- هذا المشهد ذكّرني بمشهد مماثل تقريباً رأيته بأمّ عيني ، وعشته بكل جوارحي ، حيث كنت – قبل جائحة كرونا – اجلس مع عالم جليل في مقهى في شارع عباس العقاد بمدينة نصر وإذا بفتاة في نفس عمر كوثر تبيع بعض أطباق الحلويات الشامية ، فرقّ لها قلبي واستشعرت مأساتها ، ورغم أني لا آكل الحلويات فقد عرضنا عليها شراء كل الأطباق التي بحوزتها ، ويبدو أنها احسّت بأن تصرفنا هذا إنما شفقة بها ؛ فنادتها عزة نفسها وأبى عليها كبرياء طفولتها الكبيرة قبول عرضنا ، واشترطت علينا شراء طبقين اثنين إن اردنا ذلك ، فلم يكن أمامنا إلا الرضوخ ، أمام إصرارها وعنادها . وقد عرفنا منها أنها وأسرتها تعيش لاجئة في مصر العروبة وقد قُتل أبوها في غارة جوية استهدفت المنطقة التي كانت تعيش فيها في مدينة حلب ..
٣- المشهد الآخر كان في البرنامج المذكور لأب أفغاني يحكي قصته وهو يبيع أحد أبنائه الثلاثة من أجل إعاشة الأخَوين الآخرَين ، فهو لا يملك قوت يومه وهذه مصيبة أكبر من سابقتَيها ؛ إذْ كيف لأب أن يببع فلذة كبده ! وما السبب الفظيع الذي يقْدم على ذلك؟
يا لقسوة الحياة وظروفها ، ويا ويل مَن كان السبب في وصول الإنسان إلى هذه الدرجة التي تجعل أبًا منعدم الإنسانية والرحمة حتى مع فلذات أكباده .
٤ – أما المشهد الرابع ، فكان لأم لبنانية تشتكي الفقر وضيق ذات اليد ، وكيف أصبح الآباء والأمهات لا يأخذون أطفالهم عند الذهاب لشراء حاجاتهم من السوق ، كي لا تهفو نفوس هؤلاء الأطفال لقطعة حلوى أو فطيرة جبن ، لأنهم لا يقدرون على دفع ثمنها في بلد انهارت فيه قيمة الليرة اللبنانية إلى القاع ، وسرقت البنوك ودائع المواطنين فانهار الاقتصاد اللبناني إلى مستوى لم بسبق له مثيل ، بينما يتهافت السادسة اللبنانبون إلى اقتسام الغنائم وتقاسم الكراسي والمناصب ، والبلاد تعيش بدون رئيس دولة ولا حكومة ثابتة وبرلمان تتنازعه الولاءات للخارج الإقليمي والدولي ، فتتولى الحكومة المنتهية ولايتها مهمة تصريف الأعمال. .
ليس مفهوماً ما إذا كان قد كُتب على دول العالم العربي بالذات ، أن تعيش الصراعات والنزاعات الداخلية والبينية ، وشعوبها هي التي تتحمل تكاليف هذه الصراعات بالتشريد والتهجير والقتل والدمار ، فيما زعماء الحرب غارقون في ملذاتهم وقد زاغت عقولهم وقست قلوبهم حتى غدت كالحجارة قسوة ، بل هي اشدّ ، فلا قلب يخشع أو يلين ، ولا خوف من غضب الله يردع ، ولا صراخ الأطفال والثكالى يشفع ، باعوا أوطانهم وشعوبهم وضمائرهم بثمن بخس ، استمرأوا أكْل قوت شعوبهم ، واستباحوا حرمة أوطانهم وكرامتها ، كما أصبحت القوات الأجنبية في بلدانهم سراح مداح . إنها نتاج الضمائر الميتة والوطنية الزائفة ، فالوطن لهم كما يتخيلون .
إنّ حلم كوثر العودة إلى ضَيعتها ومدرستها التي اعتادت الذهاب إليها ، وهو حال الآلاف بل الملايين من أقرانها المشردين في بقاع الأرض ، يعانون من الجوع وبرد الشتاء القارس وحرارة الصيف الملتهبة وقساوة العيش ، ولكن وا أسفاه لا تبدو في الأفق بوادر انفراج في النزاعات والصراعات في العديد من الدول العربية…
نسأل الله أن يفرج عن شعوبنا المكلومة ، وأن يكون عام 2023 عام خير وسلام على الأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع .
اللهم نجّنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، واحفظ بلادنا عمان آمنة مستقرة .