الصحوة – د. معمر بن علي التوبي
نندفع أحيانًا لمحاولة فهم مسائل فلسفية معقّدة مثل الإرادة الحرة التي تتضارب فيها الآراء والتناقضات الفلسفية والعلمية، فمنذ قرون ومسألة الإرادة الحرة عند الإنسان محلّ خلاف بين الفلاسفة وشمل ذلك علماء الطبيعة منذ ثمانينيَّات القرن الماضي، واندفاعنا لمحاولة فهم هذه المعضلة الفلسفية وتفسيرها يشابه ذلك الاندفاع لفهم معضلة مشابهة هي الوعي الذي أراه يشكل جزءًا مهمًا في تحديد مسار فهمنا للإرادة الحرة.
نجد أنّ مفهومَ الإرادة الحرة قد تضارب بين عدة آراء، الرئيسة منها هما الإنكار الكلّي لوجود الإرادة الحرة وأسبابها متفرّعة، وقبول وجود الإرادة الحرة. الفريق المنكر لوجود الإرادة الحرة يستند إلى مبدأ الحتمية السببية القائل أننا ولدنا بقرارات تحدد مسار حياتنا بما فيه تحديد أفكارنا وأفعالنا المستقبلية، وأنّ هذه القرارات المسبقة التي لم نقرر وجودها وفق إرادتنا فإنها تمنع أيّ فرصة لتشكيل ما نعرفة بالإرادة الحرة؛ وهذا ما يقود إلى تأسيس مبدأ اللاتوافقية الذي يرى أنّ حريتنا غير متوافقة مع الحتمية السببية التي قد نجد فيها بعض التشابه مع مبدأ كانط الفلسفي في المقولات الضرورية السابقة، وهذه الاستنتاجات الفلسفية بمجموعها تنهض بمبدأ الغريزة المسبقة وتنسف مبدأ العقل الحرّ؛ وحينها تحاول أنْ تجعلَ الإنسان مسلوب الإرادة والحرية في مستويات دون الوعي والعقل، وهو مستوى باقي الكائنات غير العاقلة.
في المقابل نجد أيضا الليبرتارية (التحررية) التي لا ترى أي تعارض في وجود اللاتوافقية ووجود الإرادة الحرة؛ إذ لا وجود للحتمية السببية المقررة، والتي تنطلق من مبدأ أنّ الإنسانَ متحكم في إرادته المتمثلة في الأفكار والأفعال في حدود المقرارات المسبقة وفق مبدأ الحتمية السببية، وكذلك في المقابل نجد التوافقية التي ترى وجود التوافق بين الحتمية السببية وتحكم الإنسان بهذه الحتمية الموجودة فيها مسبقا1. نجد هنا أنّ الحتميةَ حاضرةٌ في بعضِ هذه المشاهد والصراعات الفلسفية، والتشبّث بها يعود إلى أسبابه الدينية -خصوصًا عند النصرانية- وفلسفية مثل الفلسفة الرواقية، وهذا أيضا ما نلاحظه في حتمية نيوتن في الفيزياء، إلا أنّ هذه الحتمية بدأت تتضاءل، ولمعانها يقل بين الأوساط العلمية والفلسفية بداية مع تشكيك الفيلسوف إرنست ماخ، وبعده آنشتاين بنظريته النسبية التي زعزعت حتمية نيوتن، وبالثورة النسبية الكبرى المتمثلة في فيزياء الكوانتم، وعشوائية الحركة الفيزيائية وفق نظرية الفوضى، وعشوائية الحركة البيولوجية المتمثلة في الطفرات (وإنْ كنتُ لا أرى عشوائية عمياء بل هي عشوائية “في ظاهرها” مقصودة وتتحرك وفق غاية واعية لا يمكننا بلوغ تفسيرها العلمي -على الأقل في وقتنا الحالي- تدل على وجود التصميم الذكي الموَجَّه وغير العشوائي).
هناك بعض المحاولات العلمية المبنية على التجربة العلمية التي أيّدت فرضية إلغاء وجود الإرادة الحرة، وبدأت بتجربة العالم بنيامين ليبت في 1980 في مجموعة من المشاركين بوضع أجهزة مراقبة للنشاط الدماغي، وطُلب منهم تحريك معاصمهم حال رغبتهم بذلك دون أي طلب من أحد، ولوحظ وجود نشاط كهربائي قبل نصف ثانية من الفعل، وتبين أنّ المشاركين اتخذوا قرار تحريك معاصمهم قبل ربع ثانية من الفعل، وجاءت بعد هذه التجربة تجارب مشابهة اِسْتُعمِلتْ فيها تقنيات مراقبة أكثر تقدمًا تؤكد وجود هذا النشاط الدماغي الذي يَسبق الفعل والقرار الواعي.
هذه التجارب أقصى ما استطاعت أنْ تثبتَه هو تأكيد وجود الإرادة قبل حدوث الفعل، وفُسّر هذا بانعدام حرية الإرادة لدى الإنسان؛ وحينها الإنسان ليس سوى دميةٍ يتحرك وفق إرادة الكيمياء الحيوية حسب وصف سام هاريس، وهنا يتجلّى معنى الانحياز الباحث عن أعذار واهمة تحاول أنْ تثبتَ من خلالها أنّ المنظومةَ التطورية (Evolutionary mechanism) قادت إلى وجود الوعي، وأنّ الإرادة الحرة مجرد وهم. نجد هنا أنّ هذه المغالطة “التأويلية” لم تكن مقنعة لدى كثير من العلماء لأسباب عدّة؛ نأخذ منها ما ذكره عالم الأعصاب الأمريكي إدي نامياس “Eddy Nahmias” تعليقًا على تجربة ليبت: ” ….تجربة ليبت. بدأت هذه التجربة بمشاركين يحضرون بصورة واعية للقيام بعدد من الأفعال المكررة وغير المخطط لها. وحينما بدأت التجربة، حرك هؤلاء معاصمهم بتلقائية وقت أن أحبوا فعل ذلك. والنشاط العصبي الذي تضمنته عملية التخطيط الواعي، ربما يكون قد أثر على الفعل غير الواعي بالحركات في وقت سابق، الأمر الذي يكشف عن حدوث تفاعل بين النشاط العصبي الواعي وغير الواعي”2. كذلك لا يمكن لنا أنْ نفصلَ الإرادة بشكل مطلق وكلّي عن الإنسان، وعن ما يقرره ويختاره لمجرد أنّ النشاطَ الكيميائي والكهربائي في الدماغ يُظهر نشاطًا يسبق الفعل والاختيار؛ فهنا يقع أصحاب مدرسة إنكار الإرادة الحرة في تناقض كبير؛ إذ يقومون بفصل النشاط الدماغي عن الإرادة لدى الإنسان، كأنّ الدماغَ كائنٌ أو عنصرٌ مستقل عن الإنسان، إذ من المعقول أنْ نجدَ تأخر الفكرة والقرار عن الاختيار والفعل؛ نظرًا للنشاط اللاواعي الذي في أصله جزءٌ غير منفصلٍ عن تجاربنا المكتسبة السابقة، وحتى عن غرائزنا البيولوجية المتغايرة في حالات ما، والمشتركة في حالات كثيرة (بين البشر وباقي الكائنات الحية)، والتي في جوهرها لا تشكّل إلا دوافع غريزية ضرورية مغروسة في داخلنا تدفعنا إلى التفاعل مع الحياة والاستمرار فيها؛ وهذه حينها لا يمكن اعتبارها تابعة للحتمية السببية، ولكنْ يمكننا القبول بما يمكن أنْ نطلق عليه “السببية النسبية المسبقة”، والحديث عن هذا المبدأ يحتاج إلى إفراد ونقاش مطوّل خاص.
كذلك لا يمكن أنْ نهملَ العامل الكوانتمي الذي تبيّن لي علاقته بالوعّي كما ناقشته في كتابي الأول “بين العلم والإيمان”؛ وحينها من غيرِ المستبعدِ أنْ نقرَّ بوجود وعيين يتصلان بعضهما ببعض، أولهما الوعي تحت الذري؛ أيّ في المستوى الكوانتمي -حيث الدراسات العلمية تُرجّح وجود هذا النوع من الوعي في النطاق الكوانتمي، وهذا أيضا تعرّضت له في كتابي الأول3- ويكون داخل الدماغ؛ فإرادته اللاواعية “حسب تأويلنا الظاهري” المتمثلة في القرارات المسبقة في حقيقتها متصلة بالوعي الثاني الذي نعني به الوعي الظاهري الواعي “العام” ما بعد الكوانتمي؛ وحينها لا يمكن أنْ نفصلَ بين الوعيين كونهما وعيين لماهية واحدة، وهذا ينبّه إلى وجود الإرادة الحرة “النسبية” وليس المطلقة التي -كما سنرى في الفقرة القادمة- يتضح أنّ العامل الأخلاقي هو من يمنحها حق الإرادة، وأنّ العامل الأخلاقي أساس الوعي والعقل الذي تميّز به الإنسان دون غيره من الكائنات؛ كونه يمنح الإنسانَ هذه الإرادة التي لم تُمنحْ لباقي الكائنات التي تتحرك -في غالبها- وفق إرادة سببية وغائيّة “غريزيّة” مع وجود الوعي الكوانتمي الغائّي المدفوع بغرائز مسبقة؛ مما جعل وجود الإرادة الحرة لدى الإنسان تفردًا خاصًا به دون غيره.
في خضّم هذه النقاشات والآراء الكثيرة فيما يخص قضية الإرادة الحرة؛ نعود إلى أهم عامل قررنا وجوده باعتباره شرطًا أسياسًّا في الإرادة الحرة بجانب الوعي الكوانتمي، لنجد أنّ هذا العامل قد أُهمِل ولم يعطَ نصيبه الكافي في هذه المسألة؛ فالعامل الأخلاقي الذي تميّز به العقل الإنساني دون غيره من باقي الكائنات الحية هو الذي حدد مستوى الوعي العالي عند الإنسان، وهذا ما يجعلنا نتفق مع الفيلسوف العربي المعاصر طه عبدالرحمن في إطلاق مسمى “الإنسان الأخلاقي” كون الأخلاق المعيار الأول والأساسي في العقل الإنساني ووعيه؛ وحينها يمكننا إعادة فهمنا للإرادة الحرة للإنسان من منطلقات القيم الأخلاقية “الواعية” التي أراها تعمل كمرشح (Filter) يعمل على تنقية القرارات والأفكار المستوطِنة في عمقنا سواء اللاواعي أو الواعي، وبالتالي نجد أنّ نمو معارفنا الأخلاقية تزيد من فرص تحكّمنا في أفكارنا وأفعالنا، وحينها نحن من يتحمل مسؤولية أفعالنا بعد أنْ تَقررَ وجود الإرادة الحرة بوجود العامل الأخلاقي الخاص بنا نحن البشر، وهذا يتحقق سواء أقررنا بوجود الحتمية السببية المسبقة بنوعيها المطلق والنسبي أو حتى بعدم وجودها، ومع ذلك يمكن أنْ نأتي أيضا إلى التحقق من وجود الحتمية السببية ؛ لنجد أنّ وجودها النسبي يمكن القبول به لأسباب بيولوجية تؤثر على توجهاتنا ونوايانا المبطنة من حيث اكتسابنا لجينات تؤثر على نمط حياتنا، وعلى الإفرازات أو نقص الهرمونات المساهمة بشكل لا إرادي في تحديد مواقفنا ومسالكنا في الحياة، إلا أنّ العامل الأخلاقي يقف صمامًا أقوى عند مراحل تحول التوجهات إلى أفعال واقعية ليكون أهم معيار نحدد به الإرادة الخاصة بنا4.
قد يتساءل بعضٌ مِنَّا عن أهمية مناقشة مثل هذه القضايا الفلسفية، والأولى أنْ نتساءل أيضا عن أهمية الجدل الكبير بين الفلاسفة والعلماء فيما يخص مثل هذه القضايا؛ لنجد أنّ قضية الإرادة الحرة جدلها يخص قضايا اجتماعية وأخلاقية كبرى تتعلق بالسلوك الإنساني، وما سيتفرّع منه في السلوك العام مثل الجريمة ودوافعها، والسلوك الخاص؛ مثل الشذوذ الجنسي والتشريعات القانونية والجزائية، ففي حال وقعنا في فخ دحض الإرادة الحرة وإنكارها فنحن أمام معضلة أخلاقية كبرى تطالبنا بقبول الجريمة، وقبول الشذوذ الجنسي، كونها أفعالًا خارجة عن إرادة الإنسان، وحريته في الاختيار فيها مسلوبة، وهنا سنكون في مأزق أخلاقي جسيم، نُرجع فيه الإنسان إلى المستوى اللاواعي “الحيواني”؛ حينها يفلت المجرم من الجريمة، ولا ينال عقابًا تعذرًا لانعدام إرادته الحرة، وتفقد المجتمعات طابعها الفطري المتمثل في الأسرة، عبر منح الحرية للمثلية “الشذوذ” التي مثل ما يدّعون أنّ الإنسانَ سُلبَ حرية قدرته على عدم اختيارها!! وهنا نجد تعطيل العقل والوعي والعامل الأخلاقي؛ ليُعادَ الإنسانُ إلى ما دون الوعي المرتبط بالعامل الأخلاقي! هنا نجد أننا أمام قضية فلسفية أخلاقية مهمة تحتاج إلى فهم ودراية مستندة إلى العلم والمعرفة التي لا أرى هذا المقالَ القصير كفيل بالإحاطة الجيدة والوافية للقضية، ولكن عساه مجرد انطلاقة لمشروع كتابي أكثر شمولية وتحليلًا وتفصيلًا.
1 لمزيد من التفصيل يُنظر: توماس بينك، ترجمة: ياسر حسن. الإرادة الحرة: مقدمة قصيرة جدا. الترجمة للعربية: مؤسسة هنداوي. 2015.
2 يُنظر: https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/from-the-magazine/why-we-have-free-will/، تاريخ الزيارة: 15/12/2022 at 9:00 am
3 يُنظر: التوبي، معمر، بين العلم والإيمان، دار الغشام، 2019.
4 لمزيد من التفصيل فيما يخص العامل الأخلاقي وعلاقته بالوعي والدين والجانب البيولوجي عند الإنسان أحيل القارئ إلى كتابي الثاني “التوبي، معمر، هكذا نتطور: فلسفة التطور في الإنسان والأفكار والأشياء. دار لبان. 2020”.