بقلم : محمد جمعة غنيم
لو استعملنا تقنية الهولوغرام لتعرض لنا إسهامات الإنسان الحضارية عبر القرون لكل اختراع أو تقنية أو نظرية علمية وذلك عن طريق إظهار صور المخترعين والعلماء في هيئة ثلاثية الأبعاد منبعثة من إسهاماتهم لحدنا عن الحقيقة ذلك لأننا سوف نختزل بصورة مخلة المراحل التي سبقت اكتشاف نظرية علمية أو إرساء قانون معين أو تطوير بعض التقنيات لصالح إخراج صورة نهائية تمثل مرحلة فارقة من مراحل التاريخ.
سنأخذ الساعة كمثال والتي نعرفها جميعا بأشكالها الحالية التي إما أن تكون ساعة حائط أو ساعة يد أو تكون ساعة إلكترونية في جهاز الهاتف والحاسوب. لو أمعنا النظر في تقنية قياس الوقت فسيرجع بنا الزمن إلى الوراء نحو الألف الثالثة ما قبل الميلاد فنجد أن المصريين القدماء هم أول من اخترع آلة لقياس الزمن اسموها ساعة الشمس gnomonتعتمد هذه التقنية على تحرك ظل عصا عمودية مزروعة على الأرض طوال اليوم. وقسم اليونان والرومان الساعات الشمسية إلى اثني عشر جزءا متساويا كما استعمل البابليون والمصريون الساعات مائية لحساب الوقت ليلا وذلك عن طريق قياس كمية المياه المتبقية نتيجة تدفقها من أوعية مثقوبة من أسفل1 .
شرح بديع الزمان أبي العز إسماعيل بن الرزاز الجزري (ت1184) في قسم كبير من كتابه (الجامع بين العلم والعمل في صناعة الحيل) الحيل التي استخدمها في قياس الوقت كالدمى ذاتية الحركة والأبواب التي تفتح ليخرج منها قارعي الطبول وساعة الفيل العبقرية تصميما2 وساعة الشمعة للقرد . جاء بعد ذلك الأوروبيون في القرون الوسطى فحولوا نظام الساعات إلى نظام ميكانيكي وذلك باختراع ساعات تحركها أثقال وتباهوا في تعليقها على أبراج الكنائس وسعى الأثرياء منهم في اقتنائها لمنازلهم1 ثم تطورت الساعات بعد ذلك إلى ساعات بلورية (كوارتزية) وإلى
ساعات ذرية في الوقت الراهن.
ولا يفوتنا كذلك أن تقسيم الوقت إلى النظام الستيني الذي نعرفه حاليا يعود فضله للسومريين3 وسيطول بنا الحديث إذا ما تحدثنا عن الانتفاعات المستفادة من صناعة الساعات على حضارات العالم المختلفة في الطقوس والأديان وعلوم الفلك والاقتصاد والزراعة ولا نود التطرق إلى المواد المستخدمة في اختراع التقنيات المختلفة للساعات من حديد وزجاج وغيرها فذلك سيعود بنا حريًّا إلى فجر التاريخ حينما اكتشف الإنسان تلك المواد المصنعة وجعلها مطواعة بين يديه في استعمالاته العديدة.
الشاهد في كل ما ذكرنا أنه من الواضح أن معظم الحضارات خلال فترات متباينة كانت لها بصمتها المميزة في تكنولوجيا قياس الوقت وهذا الأمر ينسحب على جميع الاختراعات التي قام بها الإنسان كالكتابة والبوصلة والطباعة فضلا عن النظريات العلمية والرياضية والفنون والآداب المختلفة. فالساعة لم تأخذ شكلا خطيا في تطويرها بل غذّتها جوانب أخرى في مجالات كالفلك والميكانيكا والطقس ونظمت حياة الناس في أداء طقوس العبادة وتحسين منتجاتهم الزراعية واستخدمت كوسيلة في العديد من التجارب، فالأمر ليس بسهولة بالإمكان تبسيطه بمجرد أننا نتتبع مسار تاريخي معين يمثل تاريخ تطور كل تقنية وكل نظرية علمية وكل قانون فهذا يحتاج إلى مزيد من البحث.
ذكر ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن المغلوب مولع دائما باتباع الغالب فنرى في بلدان الشرق الأوسط والبلدان الأفريقية الإنسان المنصاع الذي يستحقر كل شئ عدا ما أنتجته الحضارة الغربية ونجد في الغرب الإنسان الغربي المتعالي الذي يقوم بحذف كل المساقات التاريخية التي أدت في النهاية إلى ما توصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم علمي فهو ينظر إلى عنان السماء ولا يعي أين يضع قدميه. كلاهما- أي الإنسان الشرقي الانهزامي والإنسان الغربي المتعالي- يفرغان عن المنطق نفسه فلا يدركان التحولات التاريخية في العلوم والآداب وينظران بعين
قاصرة إلى ما آلت إليه الأمور في بلدانهما.
هناك أيضا من سلك طريقا يحسبه وسطا في نسبة العلوم لأصول أصحابها ولا يولي أهمية للبيئة الحاضنة التي أخرجت تلك العقول مع أنه في المقابل يسقط هذا الاعتبار في السياق الغربي حينما توزع الجوائز العالمية لعلماء من أصول آسيوية أو إفريقية أو لاتينية. ففي حضارة الإسلام برز علماء ومفكرين ليسوا ذوي أصول عربية كالفارابي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم ممن أثروا الساحة الإسلامية بعلومهم وفلسفتهم. يقول جون فريلي في مقدمة كتابه نور من الشرق متحدثا عن العلماء في العالم الإسلامي: ” لكن بصرف النظر عن دياناتهم ولغاتهم وأصولهم العرقية، فإنهم كانوا جزءًا من العالم الإسلامي، تماما مثلما كان علماء غربيون في أواخر العصور الوسطى ينتمون إلى العالم المسيحي اللاتيني في حين كان أغلب العلماء في الإمبراطورية البيزنطية عندما كانت عاصمتها القسطنطينية مسيحيين أرثوذوكس يتكلمون بالإغريقية ولا يزالون محافظين على الارتباط بالثقافة الإغريقية الرومانية القديمة”4.
لقد شاركت الإنسانية جمعاء-بما في ذلك أفريقيا وأمريكا اللاتينية
بثرواتها المنهوبة – في جعل أوروبا وأمريكا على ما هي عليه من تقدم لم يسبق له نظير وكون الإنسان الغربي بلغ ما لم يبلغه الأولون من فتوح علمية فذلك لا يعطيه الأحقية في تقزيم دور الأمم الأخرى التي بالأحرى لولا احتكاكه بها لفتكت به الحروب والأمراض.
حمل الإنسان شعلة الحضارات منذ أن سرق برموميثيوس النار من آلهة الأوليمب وأعطى قبسا منها للبشر كما تقول الأساطير اليونانية وأساء الإنسان استخدامها في حروبه ضد بني جنسه وبالرغم من ذلك ظل يرفع تلك الشعلة وهو يفكر بجدية كيف يحملها معه إلى الفضاء وستظل الشعلة متوهجة في يده ما لم يسقط ذلك القبس الإلهي من بين يديه فيحيل كل شيء إلى لا شيء.