الصحوة – أمينة بنت محمد العبرية
لما كانت الآثار الوخيمة المتولدة عن الجريمة متنوعة وتمتد لتصل وقعتها إلى مجالات متعددة من جوانب الحياة، فهناك من الجرائم ما يمس الحياة الاجتماعية للأفراد المجتمع، أو تمس الدين ، كما أن هناك أفعال مؤثمة وعلى درجة من الجسامة ذات أثر سلبي في المجال الاقتصادية حيث تؤثر على سير الاقتصاد و تعيق تطوره ونموه بشكله الطبيعي، ومن بينها جريمة غسل الأموال والتي يعمد فيها الجناة إلى إخفاء واتمويه المصدر الغير مشروع لأموال، والتي تكون متحصلة من جريمة ما و وذلك بإضفاء الطابع الشرعي عليها ومحاولة إكسابها هذه الصفة ومن ثم دمجها مع باقي الأموال الطبيعية بعد تنظيفها في الدورة الاقتصادية وذلك بالمضاربة بها واستغلالها في مختلف الأنشطة التجارية.
إذ أن لجريمة غسل الأموال آثار شديدة الوطأة على الاقتصاد المحلي، إذ من شأنه أن تضعفه إزاء فقد الاقتصاد للعديد من الاستثمارات المالية المهمة التي تدعم عجلة التنمية في الدولة، حيث أن غاسلو الأموال يعمدون إلى تأسيس مشاريع لفترات قصيرة المدى و بعد الوصول إلى تحقيق مطامعهم يعمدون إلى البحث عن أماكن أخرى من أجل إعادة الكرة، كما من شأنه أن يفضي إلى تقليل الانتاج نتيجة التحول نحو الاستهلاك، وانخفاض سعر العملة الوطنية جراء الطلب المتزايد على العملات الأجنبية، علاوة على خلق نوع من عدم التوازن في مستوى غنى الأفراد و توجد نظام الطبقية في المستوى المعيشي ومن ثم ارتفاع في معدل الفقر، كل ذلك مجتمعا يفضي إلى زيادة معدلات الجريمة وتفشي الإجرام من جرائم الفساد و الغش التجاري و تزييف الأموال.
ولقد عنى المشرع العماني بالتصدي لهذه الجريمة تجلى ذلك بإصدار المرسوم السلطاني رقم ٣٠ / ٢٠١٦ بإصدار قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب حيث نصت المادة الثانية منه على ما يلي : ( يعد مرتكبا جريمة غسل الأموال كل شخص طبيعي أو معنوي يقوم عمدا بأحد الأفعال الآتية: أ- تحويل الأموال أو نقلها أو إجراء معاملة بعائدات الجريمة مع أنه يعلم أو ينبغي أن يعلم بأنها متحصلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من جريمة أو من فعل أو أفعال تشكل اشتراكا في جريمة، وذلك بهدف تمويه وإخفاء طبيعة ومصدر تلك العائدات أو مساعدة أي شخص أو أشخاص مشتركين في جريمة.
ب- تمويه و / أو إخفاء طبيعة ومصدر ومكان وحركة وملكية عائدات الجريمة والحقوق المتعلقة بها والمترتبة عليها، مع أنه يعلم أو ينبغي أن يعلم بأنها متحصلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من جريمة أو من فعل أو أفعال تشكل اشتراكا في جريمة.
ج- تملك أو استلام عائدات جريمة أو حيازتها أو الاحتفاظ بها مع أنه يعلم أو ينبغي أن يعلم بأنها متحصلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من جريمة أو من فعل أو أفعال تشكل اشتراكا في جريمة.
ويفترض العلم بالمصدر غير المشروع للأموال أو الممتلكات ما لم يثبت صاحب الحق أو الحائز للأموال أو الممتلكات عدم علمه بذلك.)
ومن هنا كان لا بد من تظافر الجهود الدولية و المؤسسية في مواجهة هذه الجريمة وايقافها عند منابعها و تخليص المجتمع من أدرانها، وهو ما لا يتأتى إلا بتعزيز مستوى الوعي والشفافية المطلوبة في المعاملات التجارية والمالية، وسن القوانين الرادعة، “لاسيما وأن من بين الأسباب التي تقف خلف انتشار هذه الجريمة المنظمة هو الالتزام الصارم للمؤسسات المصرفية ويأتي في مقدمتها المحافظة على السر المصرفي وذلك دعما للثقة والائتمان.”
لا ريب أن من الواجبات والأخلاقيات المنظمة لقواعد السلوك المهني في مختلف القطاعات هو الالتزام بالمحافظة على السر الوظيفي الذي يطلع عليه الشخص أو ينمو إلى علمه بمناسبة او في أثناء تأديته لها، حيث أن نطاق هذا الالتزام لا يقتصر على مدة الخدمة وانما يمتد أحيانا إلى ما بعد انتهاؤها، ويؤدي خرق هذا الالتزام أي إفشاء السر إلى تعريض الشخص إلى خطر المساءلة الجنائية، وذلك إذا ما كان التصريح به في خلاف الحالات المحددة قانونا التي تبيح الإعلان عنه و وفق الضوابط المنصوص عليه.
فالسر المصرفي يراد به” كل واقعة أو معلومة تصل إلى علم البنك سواء بسبب ممارسة النشاط المصرفي أو بسببه، ويكون من مصلحة الزبون هذه كتمان المعلومات، خاصة إذا تعلق الأمر بمركزه المالي كإفشار رصيد حساب أحد العملاء أو الضمانات التي قدمها لقاء تسهيلات مصرفية .”، ولقد ورد تكريس هذه االتزام بموجب نص المادة (24 ) من المرسوم السلطاني مرسوم سلطاني رقم ١١٤ / ٢٠٠٠ بإصدار القانون المصرفي والتي نصت على ما يلي : (لا يجوز لأعضاء مجلس المحافظين وجميع المسؤولين والمستخدمين أو المستشارين أو الخبراء الخاصين أو الاستشاريين المعينين بموجب هذا القانون، إفشاء أية معلومات تم الحصول عليها أثناء أدائهم لمهامهم إلا إذا كان هذا الإفشاء ضروريا لأداء واجباتهم وتم لغيرهم من موظفي البنك المركزي أو للممثلين المعتمدين الآخرين للبنك المركزي أو عندما يتم استدعاؤهم للشهادة في دعوى قضائية أو ما شابهها أمام محكمة مشكلة بموجب قوانين السلطنة، أو عندما يكون هذا الإفشاء لازما للوفاء بالتزامات تفرضها قوانين أخرى للسلطنة، أو إلى بنوك مركزية أجنبية أو جهات رقابة أخرى مسؤولة عن الإشراف على أي جانب من جوانب أنشطة المصارف في عمان أو فروعها والمؤسسات المنتسبة لها في الخارج.)
كما أن المادة (70) من ذات القانون على سرية المعاملات المصرفية بقولها -: ( أ- لا يجوز لأية جهة حكومية أو أي شخص أن يطلب مباشرة من مصرف مرخص الإفصاح عن أية معلومات أو اتخاذ أي إجراء يتعلق بأي عميل بل يقدم هذا الطلب في كل الحالات إلى البنك المركزي. وتشكل لجنة في البنك المركزي لتقرير الإفصاح عن المعلومات أو اتخاذ الإجراء من عدمه. وإذا وجد البنك المركزي أنه بالإمكان قبول الطلب يتم إبلاغ المصرف المرخص للإفصاح عن تلك المعلومات أو اتخاذ ذلك الإجراء بالطريقة والأسلوب الذي تحدده تعليمات البنك المركزي. ويكون قرار البنك المركزي بشأن الإفصاح عن المعلومات أو اتخاذ الإجراء قرارا نهائيا.
ب- لا يجوز لمصرف مرخص أو أي عضو في مجلس إدارته أو مسؤول فيه أو مدير له أو مستخدم به أن يفصح عن أية معلومات تتعلق بأي عميل للمصرف إلا إذا كان ذلك الإفصاح مطلوبا بموجب قوانين السلطنة وبناء على تعليمات البنك المركزي. وعلى المصرف المرخص في كل الأحوال أن يحيط عميله علما بذلك الإفصاح على الفور.
ج- فيما عدا ما نصت عليه المادة ٧٠ (أ) من هذا القانون لا يتم الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بأي عميل لمصرف مرخص إلا بعد موافقة ذلك العميل غير أنه يجوز لعميل المصرف المرخص أن يعطي موافقة عامة على قيام المصرف باستخدام المعلومات الخاصة بأعماله المصرفية في إشعارات المصرف.
د- على أي عضو مجلس إدارة أو مسؤول أو مدير أو مستخدم سابق في المصرف المرخص أن يتقيد بأحكام هذه المادة ٧٠)
إن هذا الالتزام القانوني المفروض على عاتق المصارف أصبح يستغل بشكل سلبي من قبل غاسلي الأموال إذ يعد بمثابة الملاذ الآمن لهم للسير في مشروعهم الإجرامي، وذلك من خلاله الاستفادة من الخدمات البنكية و التكنولوجية التي تقدمها المصارف في تمويه مصدر الأموال لاسيما في المرحلة الأولى من مراحل ارتكاب الجريمة و الخاصة بالإيداع، ومن ثم تهريب هذه الأموال الغير مشروعة، فكان حريا إيجاد نوع من التوازن بين المصلحة العميل التي تقتضي الكتمان أي الحق في الخصوصية والمصلحة العامة حيث أن المحافظة على السر المصرفي يعد من العوامل التي تشجع التعامل مع البنوك و جذب الاستثمارات الأجنبية وتلك التي تقتضيها العدالة والتي تتطلب بدورها رفع السرية .
حيث أن الأصل العام هو المحافظة على السر و الاستثناء هو جواز الإفشاء والتصريح به أمام السلطات القضائية أو الجهات الرقابية المشرفة على المصارف على سبيل المثال “ما أصدره البنك المركزي العماني من تعميمان في هذا الصدد، التعميم ب،م رقم 610 في الخامس من يونيو سنة 1991م، والتعميم: ب،م رقم 880 في التاسع والعشرين من أكتوبر سنة 1999م، للتأكيد على تعزيز دور النظام المالي في السلطنة في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.”، ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بالسر المصرفي أمام هذه الجهات، أي أن هذه السرية نسبية وليست مطلقة، وهو ما يستشف من النص المتقدم، بالإضافة إلى ذلك يتعين على البنوك إبلاغ الجهات المختصة فورا في حالة الاشتباه بأن أموال ما غير مشروعة، إذ تكمن أهمية هذه الإخطار في الكشف عن الجريمة في مراحل اقترافها الأولى ومن ثم منع المداومة في تحقيق نتيجتها، لاسيما إمكانية الاشتباه بتهريب هذه الأموال عن طريق تدفقات تقدية سائلة قصيرة الأجل أو رأس المال الساخن، وأن عدم اتخاذ هذه الواجبات المفروضة عليها ومخالفتها فإن المؤسسة تكون تحت خطر الوقوع تحت المساءلة الجنائية باعتبار أن هذا الامتناع يعد من قبيل الجرائم الملحقة بجريمة غسل الأموال ويمكن الوقوف على تلك الالتزامات بمطالعة نصوص المواد (33-50) من قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
مما تقدم نجد أنه لابد أن تسهم المصارف في مساعدة العدالة في استجلاء الحقيقة، وذلك من خلال التزامها بالضوابط والإجراءات الرقابية والاحتياطية التي تكقل التصدي لجريمة غسل الأموال وضبط مرتكبيها، وإبلاغ السلطات المختصة حال الاشتباه بوجود معاملات مالية مخالفة للقانون.