الصحوة – مصعب الشكيلي
يأخذني العجب أيّما مأخذ، عند كل وقفة أقفها مع الشعر الجاهلي. والحق، لا عجب في ذلك فالقوم أهل فطرة أصيلة وسليقة سليمة، والعربية تمّ تقعيدها من كلامهم وشعرهم، ومن القرآن الكريم بالطبع، فهي بضاعتهم؛ ولكن العجب كل العجب أن ننتسب إلى العرب ونقرأ شعرهم ولا يتحرك فينا طوفان العجب واضطرامه واضطرابه الكامن بداخلنا.
لا أقول أن تبحث عن ذلك العجب الكامن، ولكن ابحث عن مسببات ذلك الطوفان من العجب الذي يقض مضاجع داخلك، من خلال إقبالك على العربية ، فذلك يرقق طبعك، ويفتق مكامن العجب عندك، ويجرجر رغبتك لمعرفة المزيد من أقوالهم في أغراض الحياة، حتى تصل إلى درجة تقرأ فيها القصيدة فتظنها من روعتها وحيدة عصرها، ويتيمة دهرها، ونادرة زمانها، وبدعة شاعرها، ومعجزة البيان، في حين أن ذلك من تراث القوم وهو يجري على لسانهم مجرى النهر وكأنه صرح ممرد من قوارير .
أحب أن أحيا مع كلام الشاعر فأحفظ القصيدة وأعرف معانيها ومناسبتها وشخوصها، وأن أضعها في سياقها الحياتي الواقعي حتى لكأني أعيش وسط أهلها وأعاين أحداثها، بل أحاول أن أكون جزءًا منها، ولا أخفيك سرًّا فلربما أميل بكل جوارحي وشعوري لإحدى شخصيات القصة، لسبب ما يشدّني نحوها، فأنساق لها طوعًا وكَرهًا.
فلذلك غادرت بلاط النعمان فارًّا بجلدي -مع النابغة- من غضبه وقد أحسن عصام أيما إحسان حين باح بغضب النعمان.
ففررنا كأن الأرض تُطوى وراءنا، وكأن وحوش الصحراء مجندة عند النعمان، مجنحة تلاحقنا؛ حتى التجأنا وسألنا جوار آل جفنة (بني غسان) فكانوا خير مجير.
وما انفكت كتب النعمان تناشد النابغة أن يعود آمنًا على نفسه مؤَمَّلا بعطايا ورضى النعمان.
ولا أعلم كيف ومتى ومن وضع فائية الأعشى الكبير -ميمون بن قيس- أمامي:
كانت وصاة وحاجات لنا كففُ
لو أن صحبك إذ ناديتهم وقفوا
حتى أني ظللت أرددها يومين – وهذا ما وسعته ذائقتي الأدبية الضيقة وإلا فالقصيدة لا تسعها أيام – متعجبًا مدهوشًا من دقة سبكها وروعة كلماتها، وما جاء فيها من غزل وفخر وحكمة وقيم، توصي بالضيف والجار والشجاعة والصبر عند لقاء العدو.
يا ليت شعري كيف وُفّق في تصوير قوة قومه وشجاعتهم عند قوله :
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا
ليعلموا أننا بَكرٌ فينصرفوا
فسألته إن كان يعني “يوم تحلاق اللمم” فلم يجبني منشغلاً بفخره عن تساؤلاتي.
ووقفنا سوية يوم ذي قار نرقب من بعيد أرض المعركة، فهذي أول مرة نعلن فيها التمرد ونخلع عصا الطاعة مع الفرس ولا بد، فقد تعلق الأمر بوصية أبيا الأعز فكان حقًّا علينا إجارة المستجير، ورأينا فرسان العرب يضربون هام الهامرز وجنوده، فأنشدني الأعشى :
وجندَ كسرى غداة الحنو صبّحهم
منا كتائبُ تزجي الموت فانصرفوا
جحاجحٌ وبنو مُلكٍ غطارفةٌ
من الأعاجم في آذانها النطف
إذا أمالوا إلى النشّاب أيديهم
مِلنا ببيض فظل الهام يُختَطَف
وخيلُ بكرٍ فما تنفك تطحنهم
حتى توَلَّوا وكاد اليومُ ينتصف
فطربت كثيرًا لنصرنا، وزاد طربي أبياته التي أنشدنيها فقلت: ليت كل معدّ اليوم معنا، فقال :
لو أن كل معدٍّ كان شاركنا
في يوم ذي قارِ ما أخطاهم الشرف
فانتشينا بنصرنا وانتشيت بفخر الأعشى بنا ، فكان يومًا مجيدًا.
ولما رأيت راحلتي على عجل، فقد يمّمت صوب معلقة أبي المغلس (عنترة) وودعت القوم في لحظة فرحة وابتهاج، راغبًا في مزيد علم بحياة العربي الجاهلي، فأقف وقفة تأمّل وتعلُّم علّي أقتبس شيئًا منها أُحْيي ما مات من إرثٍ، أو قُلْ نحن من أمَتْناه، ولعلّي أيضًا أزيل الغبارعمّا تغطى من قِيمنا وأخلاقنا؛ بل ما أسهمنا بجهل غريب في تغطيته واندثاره . والسلام.