الصحوة – ناصر بن محمد الحامدي
في زمن تتزاحم فيه العقائد، وتتنافس فيه الأيديولوجيات على توجيه السلوك البشري، تبرز الإنسانية كأحد أعمدة السلوك البشري ،فهي أعمق من التدين، وأسمى من المعتقد، وأصدق من كل القوالب الجاهزة التي نصنعها ونتزيّن بها، ليس لأن الدين ناقص أو أن العقيدة وهم، بل لأن الإنسان هو الغاية، والإنسانية هي الجوهر الذي يختبر صدق التدين وأصالة العقيدة.
التدين، في جوهره، ليس هوية تُلصق على الجباه، ولا طقوساً تُمارس أمام الجمهور، بل هو سعيٌ دائم نحو الكمال الأخلاقي، نحو الحق، نحو السلام، نحو الخير، نحو المحبة،الدين لم يُشرّع ليكون أداة فرز اجتماعي، ولا وسيلة لإضفاء قداسة على أنانية البشر، بل نزل ليحرر الإنسان من وحشيته، من أنانيته وغطرسته، من عليائه وكبريائه.
ولكن ماذا يحدث حين يتحول التدين إلى قناع إيديولوجي؟ حين يصبح غاية بدل أن يكون وسيلة؟ ينقلب حينها إلى ضدّه: يصبح وسيلة للتمييز، للحكم، للسيطرة،وهنا تضيع الإنسانية، ويضيع معها الإنسان.
الإنسان يولد على الفطرة، قبل أن يُعلَّم ديناً أو مذهباً أو أيديولوجيا، تلك الفطرة هي جوهر الإنسانية، الميل إلى الرحمة، إلى العدل، إلى التعاون، الى الخير، نحن لا نحتاج إلى نصوص مقدسة لنُدرِك أن القتل شر، وأن الكذب خيانة، وأن الظلم مؤذٍ، بل إنّ النصوص المقدسة نفسها جاءت لتؤكد ما أقرّته الفطرة،
لا لتُلغيه.
ومن هنا نقول: ليس كل متدين إنساناً، لكن كل إنسان حقيقي يحمل في داخله جوهر الدين، حتى وإن لم يعرف اسمه، ليس لأن الدين غير ضروري، بل لأن جوهره متحقق بالفعل في الأخلاق الصافية، في السلوك النبيل، في الروح الرحيمة.
يطرح الفلاسفة سؤالاً صعباً! هل يمكن للإنسانية أن تكون بديلاً عن التدين؟ الجواب ليس بسيطاً، لأن الدين – حين يكون حقيقياً – يُغذي الإنسانية، ويمنحها أفقاً مطلقاً، لكن حين تنفصل الإنسانية عن الدين، لا يعني ذلك بالضرورة أنها تتفكك أو تضيع، بل قد تظل قوية إن كانت مستندة إلى ضمير حيّ، وعقل نزيه، وإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الآخر.
بعض من أعظم المدافعين عن حقوق الإنسان في التاريخ لم يكونوا متدينين بالمعنى التقليدي، لكنهم تمسكوا بجوهر ما جاءت به الأديان، الكرامة، المساواة، الرحمة، السلام.
نعيش اليوم في زمن كثرت فيه الأقنعة، أقنعة التدين، أقنعة الأدب، أقنعة الثقافة،الكل يدّعي، والقليل من يَصْدَق، لقد صار من السهل أن يبدو الإنسان متديناً، لكن من النادر أن يكون إنساناً، فالإنسانية عملة نادرة، وهي لا تُكتسب من الشعارات، بل من المواقف، لا تُقاس بكثرة ما تحفظه من نصوص، بل بقدرتك على أن تكون رحيماً في ذروة غضبك، عادلًا في لحظة قوتك، نزيهاً حين يكون الكذب أسهل.
وأخيراً:ليكن لك الحق الكامل في أن تؤمن بما تشاء، أن تُمارس شعائرك كما تحب، أن تدافع عن معتقداتك بقوة، لكن لا تنسَ أن الأهم من كل هذا هو أن تبقى إنساناً، لأن الدين الذي لا يصنع إنساناً، هو عبءٌ على الأرض، لا نوراً فيها.
الإنسانية هي الاختبار الحقيقي لأي تدين، فإذا كان تدينك يجعلك أقل رحمة، وأشد قسوة، وأكثر كراهية، فراجع نفسك، لأنك لم تدخل إلى جوهر الدين، بل إلى شكله الخارجي فقط، وكما أن العملة الزائفة تشوّه السوق، فإن التدين الزائف يُشوّه صورة الله العادل الرحيم نفسه في عيون الناس.
فلتكن حياتك كما تشاء، وتدين بأي دين، واعتقد بأي عقيدة تناسبك، لكن المهم أن تكون إنساناً.