الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
عظيمة أنتِ يا عمان ، عبارة سنظل نرددها قلوباً وأفئدة ومُهجاً قبل الألسُن ، مادام فينا شرايين الحياة تنبض وتجري فيه الدماء ، وهي ذات العبارة التي ردّدها آباؤنا وأجدادنا ، وسيرثها أبناؤنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة ، فعمان ليست مجرد وطناً عادياً بل هي قصة عشق أبديّة امتزج فيها عرق الإنسان العُماني وتضرّج دمُه بالتراب العُماني ، وخضّبه كأنه مِسك في عجينة قوية لاتزال متماسكة رغم عوارات الزمن ، وسهام كيد حَمَلة الضغائن والمحن والإِحن ، ينسجُ فصولَها مجدُنا وعزتُنا وشموخُنا ، تتمثّل مشاهدها في تتابُع فصولها في تناسق عجيب ، من خلال ماضينا الناصع الذي لا يمكن أن ننسلخ منه ، ونفتخر به ، وحاضرنا المجيد الذي صنعناه بعزائمنا ، ومستقبلنا المشرق الذي سيحقق آمالنا وطموحاتنا ، بإذن الله تعالى .
عظيمة أنتِ يا عمان ، كعظمة الإنسان العماني الكادح في أرضه ، فيخططها ويرسمها بعرق جبينه وتعبه ، فتبوح له بأسرارها ويبوح لها بآماله التي يحملها لها ، فهو يعرف قيمتها الحقيقية ، وبقدّر ما تعطيه فيعطيها ، فتنشأ بينهما علاقة حميمة تشبه إلى حد بعيد علاقة الأم بابنها ، حتى يخيّل إليّ أنه قد نسج خيوط العلاقة مع فراشات الحقل ونباتاته وحجاراته فتجود له الأرض بخيراتها من بقلها وفومها وعدسها وبصلها وقثائها ، على أفضل ما يجود الكريم من كرمه .
ولا يقف المشهد عند تلك الصورة الجميلة ، بل تتعدد الصور إلى قدرة الإنسان العماني على الإبداع وفق ظروف الزمان والمكان ومتطلبات الحاجة ، فها هو يُخرج لنا نظرية ” غراق فلاح ” لتجري ينابيع المياه في سواقي صممت بشكل هندسي تشق عشرات الكيلومترات ، الناس ينزفون منها حاجاتهم نزفاً من المياه في الشرب والمأكل والنظافة ، لا ينضب معينها ، ولا ينفد مخزونها ، لأنها هبة الله ، ودعوة رسوله ، إضافة إلى سقي المزروعات التي كانت تلف القرية أو المدينة ، وهذا في حد ذاته ليس مجرد تاريخ نرويه في صفحات كتبنا ومقالاتنا ، بل يجب أن ننظر إليه لاستخراج مدلولات عدة في الإرادة والإبداع والصبر والتحمل والتأقلم مع كافة الظروف ، ليس من باب التغني بهذه المدلولات وإنما من أجل توظيفها في حياتنا الحاضرة والمستقبلة ، فالحياة معركة كبيرة ينتصر فيها فقط من أراد ، فمن يُرِد يقدر ، بعد توفيق الله بالطبع .
وإذا كان البعض قد تخلّى عن فلاحة الأرض ؛ ظناً منه أنها لم تعد من مقامه ، أو لأنها متعبة أو لأية أسباب أخرى ، وتركها للوافد الذي لا تربطه بالأرض التي يحرثها ويزرعها غير ذلك الراتب الشهري الذي يتقاضاه من صاحبها ، فلا هو أخلص لها إخلاص المُحب العاشق لها ، ولا هي جادت بما تملكه في جوفها ، فإنه مع كل ذلك لازال ذلك العماني الشاب وذلك الشيخ المسنّ وهو يتوشح اخضرار مزرعته ممسكاَ بمحراثه أو بذوره او يجني ثمره في طاقة او رخيوت او ضلكوت او نزوى او بهلاء او الجبل الاخضر ، أو في إحدى قرى الرستاق المتاخمة لوادي بني غافر ، أو وادي السحتن أو وادي بني هني ، او في قرى ظاهر الفوارس وخدل والعارض وكهنات ومقنيات ووادي العين التابعة لولاية عبري ، وفي العديد من القرى الثابتة والصامدة والمرتبطة بعلاقة أهلها بالأرض ، وعدم التفريط فيها ، أو في الاستفادة من خيراتها .
عظيمة أنتِ يا عمان ، كعظمة تلك المرأة التي تساعد زوجها أو أباها أو أخاها في ريّ شجرة نخيل أو ليمون ، أو تجني معه بعض المحاصيل الزراعية ، دون خجل أو ترفّع عن العمل في مهنة من أجلّ وأربح المهن إن أحسنّا استغلالها ، فأبو البشرية آدم عليه السلام كان فلاحاً يحرث الأرض ويزرعها ، ويصنع الأدوات التي تعينه على الفلاحة والزراعة ، وكانت زوجه حوّاء تساعده في عمله ، فالسماء لن تُمطر ثماراً إذا لم نحرث الأرض ونزرعها .
وقد ينظر البعض إلى ما سلف من قول ، على أساس أنه من نسْج الخيال ، وليس له على أرض الواقع وجود ، ربما لأنً المشاهد الحاضرة في أذهان البعض هي العمالة الوافدة والتي لايمكن تجاهل وجودها ، فهي حاضرة بكثرة في حواضر المدن التي طغت عليها الدعة والراحة والمدنية المأخوذة بمفاهيم مغلوطة في جوانب معينة ، ساهمْنا نحن أنفسنا بترسيخها وانتشارها ، للأسف السديد ، ولو أنّ هؤلاء ذهبوا إلى القرى والأرياف ، وشاهِدوا العماني والعمانية في وادي قريات وحيل الغافة وقرى وادي الحواسنة وسمد الشان وغيرها من القرى والمناطق الكثيرة ؛ لأيقنوا أن عظمة العُماني وأرضه لا تزالان تتواصلان في تناغم لا ينفصل ، وأن مظاهر الدّعة والراحة الزائفة لم تجد لها سبيلاً عندهم ، وإنّي لَأشدّ على أيديهم التي اخْشَوشَنَت ، وأقبّل جباههم السمراء على ذلك .
وقبل ترك الحلقة الأولى من سلسلة هذا المقال ، فإنّ الأمل يدفعنا ليكون حرص القائمين على مشروع المليون نخلة ؛ بمَنع كل أنواع العمالة الوافدة في هذا المشروع وترك العمل فيه للعمانيين والعمانيات ، حتى ولو اقتضى الحال تدريب البعض منهم ، فبهم وبإخلاصهم وحبهم لأرضهم ، سينمو وينجح مع نموّ ونجاح تطلعاتهم وآمالهم في العيش الكريم ، ونكون بذلك قد حصدنا منافع عديدة لا يمكن إغفالها أو إنكارها ، وهي معلومة للجميع .