الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
أربعة وأربعون عاماً من العطاء المتواصل في العمل الحكومي ، تنقّلت خلالها في مواقع عدة ، بدايةً من جهاز الأمن الداخلي كضابط برتبة نقيب ، مروراً بالمحاكم الجزائية كقاضٍ لمحاكم صور وصحار ونزوى الابتدائية ، ثم كقاضٍ بمحكمة الاستئناف بمسقط ومديراً للمكتب الفني ، ومروراً بعدها بكلية الحقوق في جامعة السلطان قابوس كقائمٍ بأعمال العميد ومساعد لعميد الكلية ، وكرئيس لقسم القانون العام ، وأستاذ القانون الدستوري والقانون الإداري ، وانتهاءً كمستشار لمجلس الشورى .
رحلة زاخرة بشتّى صنوف المعارف والخبرات ، شكّلت شخصًا يُدعى الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي ، رحلة رائعة بما فيها من حلوٍ ومُرّ ، ومن تقلبات لا بدّ منها كي تعترك معها ، فتخرج منها بما يمكنك أن تتفاخر به ، والحمدُلله .
ورغم أنه من الصعوبة بمكان ، أن يتحدث الإنسان عن نفسه ، إلّا أنّني ، ومن حقي كإنسان ، أن أفخر وبكل ثقة واقتدار ودون تبجّح أو انتصار للذات ، بأنني عملت من أجل وطني عُمان ، ولا شئ غيره ، كان يملاُ عليّ ويستحوذ على سمعي وبصري وفكري وقلبي ، كان حاضراً أمامي في كل عمل أقوم به ، فأفنيت عمري مخلصاَ وفياً له ، متفانياً في خدمته ، دون احتسابٍ لمنصبٍ أو مركزٍ وظيفي معيّن ، عملت عمل الكادحين الذين لم تُغرِهم زهوة الكرسي أو الوظيفة ، لأنني مؤمن إيماناً تاماً بأن ما كتبه الله لك سيأيتيك حتماً ، وموقناً أنّ الأرزاق بيده يقدّرها تقديراً ، فما كان أخطأك لم يكن ليُصيبك ، وما أصابك لم يكن ليُخطئك ، وأن لكل شيءٍ قدْراً .
ويشهد الله جلّ جلاله وتقدست أسماؤه ، وهو خير الشاهدين والمنصفين ، بأنني وخلال خدمتي المذكورة لم اتنازل عن مبدأ من المباديء التي آمنت بها ، ولم اجامل على حساب مصلحة الوطن ، ولم أنافق رئيساً أو مسؤولاً على حساب مصلحة الوطن ، ولم أطبّل كما وصفني بعضهم لأيّ كان ، مهما علا وارتفع شأنه ، فلم أتزلَف لمسؤول ، بأي أسلوب كان ، كأن أذهب صباحاً لإلقاء تحية الصباح على المسؤول ، وعزْف مقطوعة من المديح والثناء ، كما يفعل البعض ، وكما هو الحال في كل مكان . كنت أقول كلمتي بما يرضي الله ويرضي ضميري ومصلحة الوطن ، وهذا ما كان يضايق البعض مني ، ولم أسلم من الوشايات والكيد والحسد ، بل وحتى المؤمرات التي كنت أعلم ببعضها فأغضّ الطرف ؛ ليس جُبناً أو خوفاً ، وإنما التزام بقول ربّ العزة ” وأفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصيرٌ بالعباد ” .
أعترف بأنّ عملي في جهاز الأمن الداخلي كوُن شخصيتي بقدْر كبير ، وتعلّمت أثناء عملي هناك الدقة في العمل والدقة في التقدير واتخاذ القرار عند لزومه ، مهما اختلفت الحسابات ، تعلّمت أيضاً الاعتماد على الذات في التفكير والتدبير ، وأعترف أيضاً اعتزازي وصداقتي بقامات كبار أعطت ولا زالت تعطي هذا الوطن العزيز في صمْت دون كلَل ، بكل جهد وإخلاص .
وفي السفر الثاني الذي بدأ من عام ١٩٨٧م ، وكنت قد حصلت على شهادة الليسانس في الحقوق من جامعة القاهرة إلى ١٩٩٩م وعلى منصات المحاكم ، تعلمت صبر القاضي وأنَاته وحكمته ، وخبُِرت أنّ الحقيقة لا تكون في مكان أو عند طرف واحد ، بل قد تكون في أماكن وعند أطراف عدة ، لم أنظر للألقاب ولا للوظائف والمراكز الاجتماعية وأنا على منصة الحكم ، واقعة واحدة قد تعلمني دروساً وخبرات ، وتدليلاَ على ذلك ، ما حدث عندما كنت في محكمة نزوى ، كان المتهم في قفص الاتهام وقد اعتدى على المجني عليه بعصا حديد فشُج جبينه إلى عند إذنه ، وقد اعترف بجُرمه ، فدنا المجني عليه من منصة الحكم وكان رجلا وقوراً يشُع من وجهه النور ذو لحية بيضاء تناسجت خصلات شعرها ، وعمامة بيضاء تدل على حسن الخلق والمعشر ، فأعلن عن تنازله عن حقه الشخصي ، تمّ الحكم على المتهم لأنه لم يكن إيذاءً بسيطاً ، بل كان إيذاً جسيماَ ، وما إن صدر الحكم حتى رفعت الجلسة ونزلت عن منصة الحكم ، وذهبت لذلك الشيخ الوقور الجليل ، فقبّلت رأسه . إنه قاضي المحكمة الشرعية بولاية إزكي آنذاك ، لم يتعالَ أو يتمنع عن الحضور للمحكمة ، كما يفعل غيره بسبب الوظيفة أو المركز الاجتماعي.
وكان السفَر الثالث ، حيث يهوى القلب وتعشقه النفس ، إنها الحياة الأكاديمية بعد نيل درجة الدكتوراة من جامعة عين شمس في القانون العام بدرجة جيد جداً عام ١٩٩٩م ، حيث انتقلت إلى كلية الشريعة والقانون آنذاك ، توليت فيها العمل كمساعد لعميد الكلية ، وفي الفترة الانتقالية عند تغيير مسمّاها إلى كلية الحقوق ، وإلحاق تبعيتها لجامعة السلطان قابوس ، توليت القيام بأعمال العميد ، ثم رئيساً لقسم القانون العام وأستاذاً للقانون الدستوري والقانون الإداري .
مرحلة من أفضل وأجمل مراحل عملي ، حيث قاعة المحاضرات التي أعتبرها محرابي المقدس ، فهو محراب العلم والمعرفة ، ليس لطلابي فحسب بل لي شخصياً ، هناك حرية الفكر والرأي العلمي السليم ، أعترف أني كنت حازماً صارماً ، وهو ما اعتبره بعض الطلبة تزمّتاً وشدة ، ولعلهم أدركوا فيما بعد أنه كان حرصاً عليهم وحباً فيهم ، فالهدف كان على اعتبار أن يتعلموا الالتزام والضبط والربط وهم في قاعة الدرس ، فيوماً ما بعد تخرّجهم سيصبح منهم القاضي وعضو الادعاء والمستشار والوكيل والوزير ، وفي وظائف أخرى يأتمنهم الوطن فيها ، وسيتحملون مسؤولية اتخاذ القرار ، واظنهم قد أدركوا ذلك الآن ، وعلى المستوى الشخصي فقد تعلمت العطاء بلا حدود ، والتعامل مع شباب كانت لكل واحد منهم ظروفه واستعداده الذهني ، وطريقته في علاقته بأساتذته وحرصه على التحصيل العلمي ، كنت أحزن كثيراً على بعضهم عندما لا يحققون نتائج طيبة .
كان صعباً عليّ ترك العمل الأكاديمي ، لكن شاءت الأقدار أن يكون السفر الرابع إلى مجلس الشورى كمستشار قانوني للمجلس منذ عام ٢٠١٣م ، تجربة جديدة أثْرت معارفي وأضافت إلى خبراتي الشيء الكثير ، من حيث التمازج بين الجانب النظري والجانب العملي ، لكنها من أصعب وأدق فترة عمل مررت بها ، لعدة أسباب لعله ليس مناسباَ لذكرها الآن ، وقد يأتي أوانها فيما بعد ، ولكن أذكر أبرزها ، وهي كثرة مَن يتصدّون ويتصدّرون الإفتاء والتفسير ، سواءً كانوا من أهل القانون أم من خارجه ، والأمر الثاني الذي أزعجني بشدة هو سوء الظن بي من قبل بعض الأعضاء ، خاصة إِنْ لم يأتِ رأيي وِفْقَ أهوائهم أو متماشياً مع رغباتهم ، ولو عرفوني جيداً وعرفوا مواقفي السابقة لأيقنوا بأني رجل جَلدٌ عصيٌّ على الترويض ، وخاصة في هذا العمر ، وبعد هذه السنوات من الخدمة ، لا أدعي بأني أعلم الناس ، ولكني أستعير قول الإمام الشافعي رحمه الله حين قال ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ” .
ولكن هناك ما هو حسنٌ في فترة عملي بمجلس الشورى ، حيثُ توطّدت معرفتي ومحبتي للكثير من الأعضاء السابقين والحاليين ومجموع الموظفين ذكوراً واناثاَ ، على أساس من الودّ والاحترام المتبادل .
سأتركك أيها الكرسي ليجلس غيري عليك ، وسأستعيد حريتي التي افتقدتها ، التحقت بالوظيفة وأنا فقير وأخرج منها فقير مالياً ، ولكني أخرج منها عزيز النفس ، نظيف اليد شامخ الرأس ، لا ألتفت إلى الخلف ولا أنظر يمنة أو يسرة ، غني بإنتاجي العلمي الذي أفخر وأفاخر به ، والذي وصل حتى الأن ثلاثة عشر كتاباً ، وسيرتفع العددُ عمّا قريب إلى خمسة عشر كتاباً إن شاء الله ، بالإضافة إلى واحد وستين بحثاً وورقة علمية ، وعشرات المؤتمرات والندوات العلمية محلياً وإقليمياً وعربياً ، هذا غير العدد الكبير من وِرش العمل والمحاضرات والملتقيات .
سأتركك أيها الكرسي غير آسف عليك ، ورغم اعتلال صحتي فسأجعل من نفسي خادماً لوطني وسلطاني ومجتمعي ، وسأعود إلى مسقط رأسي عبري الواعدة ، عساي أستطيع المساهمة بجهد المقلّ ، كما أنّ قلمي في التأليف والكتابة لن يجف وصوتي سيصدح بالحقّ أينما كنت .
وفي الختام ، شكراً بحجم السماء والأرض لكل من تعاملْت معهم في أسفاري الأربعة ، شكراً للجميع وعذراً كل العذر من أي شخص أسأت إليه دون قصد أو هو ظنّ كذلك ، أقدّر وأمتنّ غاية الامتنان لكل المحبين ، وإنْ أنسَ فلا أنسى أسرتي الجميلة التي كانت سنَدي وتحمّلت معي كثيراً ، والشكر موصول لمن تفضّل بقراءة هذا المقال ودمتم في سلامة الله وحفظه .