الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
أعزائي : نتواصل معكم في هذه السلسلة من المقالات الخاصة، بمناسبة العيد الخمسين للوطن وللمواطن، وهذا مقالنا الثاني :
ثلاثة أمور كانت كفيلة بأن جعلت الشعب العماني صاحب الأمجاد والتاريخ قبل الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠م، وكانه يعيش في القرون الوسطى، هي الجهل والفقر والمرض، فالجهل من أخطر الآفات وهو سبب تخلف الأمم والأفراد، وكما قال أفلاطون ؛ “الجهل أصلُ وجذعُ كل الشرور” انتهى.
أما الفقر وهو نتيجة حتمية من نتائج الجهل، وحالة من حالاته، يولّد حالاً معنوياً من خوف الفقر بالإضافة إلى الفقر المادي؛ فيجعل من الآفة آفات شتى، فيعيش الفقير الذل والانكسار، وأما المرض فهو والفقر صنوان
يُسقى بماء الحال المُزري المُعاش، فهو إذا تفشى في مجتمع شلّ حركته كلياَ اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ، بل أنه ينخر في كل مفاصل مناحي الحياة الأخرى .
نعم، هكذا كان حال عمان والعمانيين قبل قيام نهضتها المباركة، وربما يكون من الصعب على جيل النهضة تصوّر المشهد على حقيقته الفعليّة، وقد حاولت تقريب المشهد في ذلك الوقت إلى أذهان الجيل الحالي، ورغم تلك المحاولة إلا أنني بالتأكيد لن أستطيع، ولن يستطيع أحد، تصوير تلك الحقبة الزمنية مهما أوتي من بلاغة الوصف، ودقّة القدرة التصويرية، على نقل المشهد كما هو، وليس في ذلك أي نوع من المبالغة، فليس مَن شاهدَ وعايشَ كمَن قرأ أو سمع .
وبقليل من المقارنات والمقاربات وإعمال العقل، يمكن الوصول إلى تلك الحقيقة، وأن الأمر لم يكن مبالغاً فيه .
ففي مجال التعليم مثلاَ، وعلى مساحة عمان الشاسعة، لم توجد إلا ثلاث مدارس، تحمل اسم المدرسة المدرسة السعيدية في كلٍ من مسقط ومطرح وصلالة، لا تضم إلا عشرات الطلبة الذكور الذين يقتصر تعليمهم على المرحلة الابتدائية، وفي مجال الطبابة، لم يكن هناك سوى مستشفيين في مسقط مجموع الأسرّ فيهما اثنا عشر سريراَ فقط، وللقارئ الكريم ان يتخيل الواقع بعد ذلك .
لم تقتصر الحالةالعمانية آنذاك على الثالوث البغيض المتمثل في الجهل والفقر والمرض، مع ما صاحَبها من انعدام التنمية بالمطلق، فقد كانت عمان في عزلة شديدة عن العالم الخارجي، وهذا لا يتناسب مع تاريخها وحضارتها، بعد أن كانت إمبراطورية عظيمة مترامية الاطراف على مساحة واسعة من قارتي أسيا وأفريقيا، ناهيك عن القيود المفروضة على المواطنين في الداخل في كافة شؤونهم الخاصة والعامة، حتى في أدق تفاصيلها، فسماع مذياع على سبيل المثال من المحظورات التي تودي بالشخص إلى الحبس، وعلى ذلك كان من لديه مذياع أن يلصقه بإحدى أذنيه حتى لا تسمع الأذن الأخرى؛ فتشيَ به عند العسس المنتشرين في الحارات، وتدخين سيجارة جريمة شنعاء وشنار لا يُغتفر .
وفوق ذلك ونتيجة لهذا الوضع المزري الذي يرضع منه العمانيون مرّ الحياة وشغف العيش وكثرة القيود وقسوة المحظورات، عاشت البلاد انقساماً وانهياراً للوحدة الوطنية، فمن جهة نشأ في جنوب البلاد تنظيمات من التمرد السياسي والعسكري، متخذة من اليمن الجنوبي آنذاك منطلقاً لأنشطتها التخريبية، ومدعومة من الاتحاد السوفيتي والصين ودول أوروبا الشرقية الشيوعية، وبعض الدول العربية كالعراق ومصر وسوريا وليبيا والسعودية والكويت، ثم انضوت اغلب هذه الجيوب تحت ما يُسمي بالجبهة الشعبية لتحرير عمان التي اعلنت بعد ذلك الكفاح المسلح ضد السلطان سعيد بن تيمور – رحمه الله – ونفذت أول عملية عسكرية على سيارة للجيش السلطاني عام ١٩٦٤م .
ولم يكن شمال عمان أفضل حالاً وأوفر حظاً عن جنوبها، فالبلاد تتقاسمها سلطتان، سلطة السلطان سعيد بن تيمور التي تسيطر على اغلبية الساحل العماني، وسلطة الإمامة التي كانت تسيطر على عمان الداخل، ودارت رحى الاقتتال الداخلي بين كرّ وفر، إلى أن تمكن السلطان سعيد من تحقيق الانتصار العسكري على حركة الإمامة وفرّ قادتها إلى المملكة العربية السعودية، واتخذوا منها مقراً لنشاطهم السياسي، مع التأكيد بوجود مناصرين لهم في داخلية عمان وكان ولاؤهم للحركة وإن لم يكن ظاهراً للعيان، والمشكلة الأكثر إيلاماً للنفس كانت تلك المحاولات العبثية الساعية لتدويل القضية العمانية من خلال جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة سواء من المعارضين في الخارج أو من خلال بعض الدول، مما كان سيعقد الوضع تعقيداً قد يصعب فكه وحلّه .
إلى جانب هذا، كان شيوخ وزعماء القبائل المؤثرة، أمراء أو حكام في حدود تواجدهم على الأفراد والأرض، وليس بمستبعد حصول نزاعات قبلية تصل إلى حد الاقتتال بينها، ويبقى دور السلطة محدوداً في محاولة الصلح بين المتنازعين، وهم زعامات قوية، والولاءات لتلك الزعامات القبلية مطلقة.
وفي ظل هذا المشهد القاتم السواد، غادر كثير من العمانيين إلى دول مختلفة، كالسعودية والكويت والبحرين والعراق ومصر براً أو بحراً وفي اغلب الاحوال سرا، إمّا لكسب الرزق الذي شحّ في بلادهم، وإمّا للدراسة بعدما فقدوه في بلادهم وإما للاثنين معاً ، سافروا وهم يعلمون أنّ عودتهم لن تكون سهلة، خاصة وأنّ بعضاً منهم لا يحمل وثيقة سفر للتنقل، ما جعل مكتب الإمامة في السعودية يصرف لهم جوازات سفر تحمل اسم الإمامة . ما جاء اعلاه حول حالة عمان قبل الثالث والعشرين من يوليو ١٩٧٠م، كما يقال في اللغة العربية ” غيض من فيض ” أو هي مجرد نقطة في بحر لُجّيّ، فيه ظلمات بعضها فوق بعض، لكن كما قلت آنفًا، إن وصف حالة عمان قبل النهضة يستحيل وصُفها، لكنها، على كل حال، هي محاولة متواضعة لتقريبها إلى ذهن الجيل الجديد الذي لم يشهد ولم يشاهد وقائعها ولا مواقعها.