الصحوة – مصعب الشكيلي
من الجميل أن تتوافق وتتفق ظروف مادية ما ، مع أخرى معنوية ذهنية ؛ فتؤتي ثماراً يانعة في إشارات إلهية وتنبيهات تنويرية في أبهى صورها، وأجمل حللها، وأكمل أشكالها. ومن تمام التوفيق في ذلك هو استيعابها ، وفهمها ، والأخذ بها.
أما الظروف المادية ، فقد شاء الله ووفّق إلى أن شهدنا جنازةً وصلينا عليها ، فتبعناها حتى تمّ دفنها . وشاء الله أن يحصل هذا الظرف في يوم عاشوراء من شهر الله الحرام ؛ الذي هو يوم صيام جاء الحضّ على صيامه لعظيم أجره ، فلله الحمد والمنّة .
وأما الظرف المعنوي ، فقد تبادر في الذهن حينئذ ، ووقع في الخلد ، واتفق في العقل والقلب أمران جليلان ، هما :
* استحضار اجتماع أمرين محمودين في الإسلام في يوم واحد ، اتباع الجنازة وصيام عاشوراء.
* عند حضور هذين المشهدين جال بالخاطر حديث سيدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، حين قال لأصحابه : من أصبح منكم اليوم صائمًا ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا.
قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا.
قال: فمن أطعم منك اليوم مسكينًا ؟
قال أبو بكر : أنا.
قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا ؟
قال أبو بكر : أنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اجتعن في امريءٍ إلا دخل الجنة.
عجيب ! كيف جمع سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه هذه الخصال كلها في يوم واحد ! أو كيف اجتمعت معه وفيه ؟!
وأكاد أجزم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعرف ما قدم أبو بكر في يومه فيسأل أسئلة توافق أعماله ، ولكن لنقل أن الصدّيق قد اعتاد عمل الطاعات والصالحات حتى أصبحت عنده عادة بل جعلها عبادة – وهي لكذلك والله – وإلا فكيف اتفق له جمع كل تلك الخصال التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . أفلا تفوته خصلة منهن سهواً ؟ ولكن يبدو أن الصديق يفعل جميع الخصال التي حصرها المصطفى في هذا الحديث ، والتي لم يحصرها . وأقول بالجزم وبما لا يدع مجالًا للشك ، ولاذرة للتردد ، ولا حياكةً من ريب في النفس، أن النبي لو زاد في ذكر الخصال ، لما فات الصديقَ منها شيء .
العبادات والمعاملات يكمل أحدهم الآخر، ولا يستقيم أحدها مع فساد الأخرى؛ لأنه سيوقع خللًا في منظومة الإيمان الكبرى “الإسلام”.
جسّد الإسلام العبادات في أركان يقوم عليها الدين ، سماها أركان الإسلام .
لم يفصل الإسلام بين العبادات وبين معاملات الناس في حياتهم العامة، وإنما جعل الأولى باعثاً وضابطاً لاستقامة الثانية . فجاء الأمر بالصلاة وحض على أدائها والحفاظ عليها في أوقاتها ، وجعل دليل قبولها تتمثل في مدى فعالياتها في ضبط سلوك المرء ، وأسلوب التعامل مع الآخر يقول الله تعالى :” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي”. وكذا الحال مع الصيام الذي هو ضابط للجوارح عن اقتراف المحرمات ، والزكاة مطهرة لشح النفس ، والحال سواءٌ بسواءٍ مع بقية الأركان ، لذلك كانت أركانًا.
والتعامل بكرم الأخلاق قربة إلى الله ، وسبب لدخول الجنة ، قال النبي صلى االه عليه وسلم :” أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحسنكم خلقًا “. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس خلقًا ، وقد عُرف قبل البعثة، وفي أوساط مكة المكرمة كلها بالصادق الأمين ، وهذا ما جعل أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين خديجة بنت خويلد متأكدة أن ما حدث للنبي – في أول نزولٍ للوحي – لا يمكن أن يكون خُذلانًا ، فقالت حاسمة : كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. وقد علم ذلك ألداؤه من أهله وأعداؤه وخصومه. وبعد البعثة أكد ما كان عليه من مكارم الأخلاق ، فقال : إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق. وتمثلها-أي الأخلاق- فكان قرآناً يمشي على الأرض كما وصفته أُمّنا السيدة عائشة رضي الله عنها ، حينما سئلت عنه. فبذا تكون العبادات والمعاملات كالجناحين على جسد الطائر يطير بهما إلى رضا الله.
وبالتأكيد، هذا ما عناه الدكتور فريد الأنصاري بقوله : يتحقق بهذا التكامل ، الإيمان. الذي هو الجمال الذي نوره القلب حتى يغمره ، فإذا فاض انسكب على الجوارح بالنور ، فتجمل الأفعال والتصرفات ، فتكون هذه العبادات وهذه التصرفات هي الإسلام .
العبرة أن يجعل المسلم خصال الإسلام ديدنًا له في حياته ، حتى إذا شاء الله واتفق اجتماع الظروف ، تسنى له بحكم العادة وحضور نية العبادة أن يجمع الخصال كلها على غير تدبير منه وتصرف . وتمام الكمال في المسلم أن تكون أفعاله وتصرفاته وِفْق ما تمليه عليه عبادته. عندها تجتمع فيه خصال الإسلام جميعها، فإن قصّر في واحدة ، كانت الأخرى جابرة لذلك النقص ومكملة له. وتعاضُد العبادات والمعاملات سبب ونتيجة لمحبة الله ، فيكون العبد كما جاء في الحديث القدسي : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها . الحديث .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته