الصحوة – بُـثينة بنـت حمـود الحسنـي
في أول لحظة من وصولك إلى مسفاة العبريين ستدرك أنك قد دخلت إلى عالم من السحر الغامض والجمال الآخاذ والجلال ..
كان هناك ينتظر كعادته، يراقب الزوّار كيف يحاولون صفّ مركباتهم في ذلك الطريق الضيق، كيف تلفّهم البهجة منذ أن يضعون أول قدمٍ على أرض حبيبته مسفاته، ذهلت لرؤيته مجددًا، التقت عيوننا كأننا نعرف بعضنا، تمنيتُ لو استطعت أن ألقي عليه التحية، أو أمطره بأسئلة لا حدّ لها ، لكنه لن يدرك هذا الفضول الطفوليّ، بل لن يفقه شيئا ممّا أقول أبدًا …
“مجنون المسفاة” هكذا أطلقت عليه حين رأيته لأول مرة قبل بضع سنين مضت، كان يقف مثل الملاك الحارس للمكان، يزيح الحجارة من على الطريق ومن أمام المارّة، يلحق بالزوار متتبعًا إيّاهم بغرابة شديدة، يحاول تنبيه النساء أن لا يقفن أمام جابية الرجال بكلمات مبعثرة غير واضحة، يقلبُ عينيه في وجوه الغرباء، مرتبكًا منزعجًا.. لكنّ هذه المرة بدا مختلفًا تمامًا !
كان يجلس على أحد درج البيوت الطينية المهجورة ساكنا منطويًا على نفسه كأنه يتألم من شيء ما!
وددتُ لو سألته ما بك؟ ما الذي تغير؟ هل كبرت وعقلت؟ ألم تعد مجنونًا مولعًا بالمسفاةِ كما كنت؟
كل هذه الأسئلة مرت خاطفةً كالريح، ثم غبتُ عن ذلك الملاك الحارس، ضيّعني جمال المسفاة وسرقني سحرها..
نزلنا الدركات، وكأننا نغوص في أعماق سحّارة قديمة.. كل ما هبطنا أكثر فاضت علينا الأرض بكنوزها من الماء والنخيل والرمّان ..
بيوت أثريّة مبينة من الجصّ و الحجارة، صيّرها أصحابها إلى مقاهٍ بديعة تحتضنها الشمس تارةً، وتلثم جدرانها الطينيّة نخيل طيبات تارةً أخرى ، ولا شيء ينهي هذا السكون سوى ضحكات الصبية المُنعمّين بالسباحة في مياه الجابية، أو ثرثرات الغرباء ..
لا أخالكِ سوى عروس مدللة أيتها المسفاة، يقبّلكِ الرمّان صبحًا ومساءً، ،يغفو على صدركِ فرصاد وتين، ويتوه فيكِ كل المساكين الهاربين من صخب المدينة وفوضاها ..
وأنا كل ما أتيتُ إليك أضيع في هواكِ، ولا يخطر على بالي سوى كلمات عذبة من قصيدة زاهر السابقي
” من بعيدٍ أتيتُ والقلب فوضى
في خلاياه تنسلُّ العلّاتُ .. ”
فلترفقي بهذا القلب المسقطي ولتلمّي شَتاته وفوضاه.